كانت الساعة تشير الى الثانية والنصف بعد منتصف الليل ، عندما حلّقت بنا طائرة الخطوط التركية ، فوق الأجواء العراقية ، متجهة الى إسطنبول ، ومنها نواصل الرحلة نحو تونس الخضراء ، وعلى مدى ساعات الرحلة كانت التنبيهات والتوجيهات الموجهة من طاقم الطائرة تأتينا بثلاث لغات هي التركية والإنكليزية والعربية ..
توقفنا (ترانزيت) في مطار إسطنبول الجديد ، العملاق ، وقلت في داخلي وانا اتمعن في هذه التحفة العمرانية «نحن قادرون على ان نبني ماهو اجمل ، ولكن لم يحن الوقت بعد !!! بعد ثلاث ساعات ، حلقت بنا الطائرة من جديد صوب العاصمة تونس ، في رحلة اخرى تستغرق ثلاث ساعات أيضا ، ولكن بسبب فارق التوقيت ، تبدو وكأنها ساعة واحدة ! ، وخلال هذه الساعات الثلاث ، غابت اللغة العربية تماما ، لتحل محلها اللغة الفرنسية ، حتى خُيل لي ان رحلتنا الى باريس ، وليس الى تونس !! ، فكل ما يأتينا من ارشادات وتنبيهات كان باللغة الفرنسية إضافة الى اللغتين التركية والانكليزية ! ..
نزلنا من الطائرة وتوجهنا صوب نافذة الجوازات التي بدت مزدحمة ، فقد وصلت اكثر من رحلة في ان واحد الى المطار الذي كان عكس مطار اسطنبول تماما !! ، علما ، ان السياحة في تونس تمثل احد الرافعات المهمة للاقتصاد هناك ، استغرق انتظارنا في الدور، اكثر من نصف ساعة ، لنخرج بعدها من المطار ، وعند الباب وجدنا مضيفينا بالانتظار ، اذ رافقونا الى ساحة وقوف السيارات ، وفيما بدت السماء ملبدة بالغيوم ، وثمة اثار لمطر غزير هطل في الليلة الماضية ، كانت الساحة هي الأخرى متواضعة وقد غطت مياه الأمطار بعض جوانبها ، أقلتنا السيارة فرنسية الصنع ، نحو الفندق الذي يقع عند أطراف العاصمة ، وخلال الرحلة التي امتدت الى نحو ٤٠ دقيقة ، كانت تطالعنا صور كبيرة وأخرى متوسطة وصغيرة انتصبت على جانبي الشارع لمرشحي الرئاسة التونسية ، التي جرت منتصف أيلول ، مضيّفنا الذي كان يقود السيارة بسرعة ، بدأ يحدثنا عن أؤلئك المترشحين ، فيقول هذا فلان الفلاني ، «حرامي» من الدرجة الاولى ! ، وذاك استغل موارد الدولة لتمويل حملته الانتخابية ، وثالث ، هو الأصلح لحكم تونس ، لانه يتحدث بشكل جميل !! ، من دون ان ينسى توجيه سهام نقده الحادة الى بعض الأحزاب ، وإشادته بأخرى ، ولم يترك لنا مجالا ، لنسأله عن قضايا اخرى ، وهو يتحدث بلهجته التونسية السريعة المفرنسة !
وقطعا ان حال صاحبنا هذا ، هو حال اغلب التونسيين في هذه الايام ، فهم منشغلون كثيرا بحدث الانتخابات التي يعدونها فرصة للتغيير ، وان كانوا لايثقون كثيرا بالخيارات المتاحة ، فهم يتخوفون من احتمال عدم تمكن مَن يعولون عليهم ، من تجاوز العتبات والعقبات الانتخابية ، فالصراع بين المترشحين البالغ عددهم ٢٦ مترشحا قائم على اشده ، والتلفزة التونسية مزدحمة بالمناظرات ، وكل مترشح يقول انه هو من يأتي بالجنة الى تونس التي تواجه تراجعا في اقتصادها ، وتعاني من عجز تجاري يصل الى نحو ١٣ مليار دينار تونسي .. وتخوف التونسيين من النتائج ، متأتٍ من الآليات المعتمدة في تنظيم الانتخابات الرئاسية ، اذ على المترشح ان يتجاوز الدورين الاول والثاني
وبعد ان جرت الانتخابات ، فان احدا من المترشحين لن يتمكن من تحقيق الأغلبية المطلوبة ، الأمر الذي سيعقد المشهد كثيرا ، ، ومثل هذا الاستنتاج يمكن التوصل اليه من خلال متابعة المناظرات التلفزيونية بين المترشحين ، التي أظهرت ضعفا ، وربما عجزا ، في القدرة على تسيير دفة شؤون البلاد في ظل الكثير من المشاكل الحادة ، سياسية واقتصادية وغيرها ، ويحمّل التونسيون ، هذا الضعف لدى الساسة الى حقبة زين العابدين بن علي الذي حكم البلاد ٢٣ عاما ، ولكن في نهاية المطاف لا حل أمام الشعب التونسي سوى الاقتناع بما ستفرزه الانتخابات الرئاسية ، بصرف النظر عمّن سيصل الى كرسي الرئاسة ، ومن ثم التأسيس لمرحلة جديدة تستند الى تمكين الكفاءات وتمتين الاقتصاد .
عبدالزهرة محمد الهنداوي