تعلن تطبيقات الهاتف الذكي الرقمي في بنود الخصوصية أنها(مشفرة) بالكامل ضد التجسس،وهذه أكبر كذبة تقنية يصدقها الناس اليوم، ويتوهمون أن محادثاتهم وصورهم غير معرضة للاختراق،والحقيقة أن كل من يمتلك هاتف متصل بالإنترنيت فهو يضع في جيبه أو بيته جاسوساً يتابع حركاته وسكناته وينقل معلوماته لكل من يطلبها من أجهزة المخابرات والشركات الإعلانية!
وهم الحماية التقنية من التجسس الذي يسمى(التشفير) لم يكن جديداً،فقد ظهر عند بداية استخدام الهاتف السلكي،ثم اللاسلكي،وكانت الحكومات والجيوش والاستخبارات والسفارات،طوال القرن الماضي، تتبادل الرسائل المشفّرة،عبر الأجهزة التي تشتريها من شركات عالمية (محترمة) تدفع لها بسخاء من أجل ضمان الأمن الذي لا يقدر بثمن،ولكن ظهر أخيراً أن الخديعة أوقعت الكثير من الزعماء والدول في شباكها،وكانت مطاردة الفريسة ومن ثم صيدها أسهل مما يتصور الكثيرون،عبر تقنيات الإتصال التي يشتريها الناس ولا يعرفون أسرارها المخفية!
صحيفة(واشنطن بوست) نشرت تحقيقاً مثيراً،قبل أيام،حول فضيحة تجسُّس المخابرات الأميركية والألمانية على(120) دولة عدوة وحليفة من خلال أجهزة الاتصال المشفرة التي كانت تصنعها وتبيعها شركة سويسرية متخصّصة في تشفير الاتصالات، وأفادت الصحيفة بأن شركة تشفير الاتصالات السويسرية«CRYBTO IG» كانت قد تربّعت بعد الحرب العالمية الثانية على عرش قطاع بيع تجهيزات التشفير المحمولة، وقد باعت تجهيزات بـملايين الدولارات لتلك البلدان المخدوعة، وأن أجهزة المخابرات الأميركية والألمانية اشترت الشركة عام 1970، في إطار «شراكة سرّية للغاية»، وعمدت وكالتا الاستخبارات في الدولتين المذكورتين إلى التلاعب بتجهيزات الشركة، بغية فك الرموز التي كانت البلدان(الزبائن) تستخدمها في توجيه رسائلها المشفّرة، واستهداف المشترين المغفلين.
المفاجأة أن التجسّس لم يصل إلى خصوم رئيسيين لواشنطن، في مقدمتهم الاتحاد السوفيتي السابق والصين لعدم تعاملهما مع شركة «كريبتو»،في حين وقعت دول عديدة من بينها إيران والعراق والكويت وسوريا والسعودية والأردن وتركيا ودول في أميركا اللاتينية والهند وباكستان، والفاتيكان في مصيدة التشفير المزعوم، وكانت رسائلها تنقل مباشرة إلى واشنطن وبرلين.
تروي الصحيفة قصة حول الرئيس المصري الراحل أنور السادات، الذي كان يجري مفاوضات في مزرعة (كامب ديفيد) الأميركية عام 1978 مع الرئيسين الأميركي والإسرائيلي حول السلام وتسوية القضية الفلسطينية،وكان يستخدم أجهزة إتصال مشفّرة من صنع الشركة السويسرية ذاتها، وهو مطمئن إلى أن رسائله إلى القاهرة ومحادثاته مع وزراءه ومستشاريه كانت محمية، لكنه في الواقع كان مكشوفاً أمام خصومه بالكامل!
وهناك أمثلة أخرى حول عمليات اختراق وتجسس مشابهة،عبر الهواتف المشفرة، ضد إيران والعراق وليبيا وغيرها، وقد كشف هذا التحقيق الإعلامي المستور وفضح المحظور، منذ عقود،وما لم يرد ذكره تصريحاً،فقد ورد تلميحاً،فقد كانت أغلب الجيوش العربية تستخدم الهواتف اللاسلكية المشفّرة في حروبها ضد الكيان الصهيوني،وكان القادة العرب يتحدثون مع بعضهم عبر فضاء إلكتروني مفتوح أمام مسامع الأعداء، من خلال تقنيات الاتصالات التي اشتروها على أنها مشفّرة فوقعوا في المحفرة!
أخطر ما في الأمر أن الضحايا الكثيرين المتضررين المخدوعين في هذه الفضيحة الدولية لم ولن يستطيعوا محاكمة المتورطين فيها!
التشفير خدعة يبيعها صنّاع تقنية الاتصالات لمستخدميها،فإذا كان بين يديك هاتف(آيفون) أو(كلاكسي) أو (هواوي) فكن على يقين أن سرك في بئر عدوك!
د. محمد فلحي