فلم «موصل» العراق بعيون الأمريكان

عرض بمهرجان فينيسيا السينمائي السادس والسبعين

د. أمل الجمل

عُرض الفيلم الروائي الأمريكي «موصل» البالغ ١٠١ دقيقة، يوم ٤ سبتمبر بمهرجان فينيسيا السينمائي السادس والسبعين خارج المسابقة الرسمية. الفيلم جاء بتوقيع ماتيو مايكل كارناهان في أول تجاربه الإخراجية. تنطلق فكرته وقصته من مقال تم نشره في مجلة نيو يوركر الأمريكية. المقال كتبه المراسل الحربي لوك موجلسون بعنوان «المعركة اليائسة لتدمير داعش»، وفيه يتابع عن كثب جهود فرقة العمليات الخاصة العراقية سواط - SWAT - التي تشكلت من أبناء الموصل ثم شنت الهجوم على مدينتهم لتطهيرها من مقاتلي تنظيم داعش الإرهابي. 
عندما استولت داعش ٢٠١٤ على منازل العراقيين في الموصل قتلت وشتت عائلاتهم، وخربت مدينتهم، فقاومت مجموعة من الرجال لاستعادة الأمر كله وقاتلت باستماته واستشهد من أفرادها عدد كبير. تم إطلاق النار على قائد فريق سواط على يد إرهابي داعش. قتلوا اثنين من إخوانه، خطفوا ثالثًا، وقتلوا صهره، وقصفوا منزل والده، وأطلقوا النار على أخته في حفلة خطوبة. 
كل واحد من رجال هذا القائد كان لديه أيضاً قصة مماثلة من الخسارة العائلية الفادحة. ومع ذلك، بل ربما لأجل ذلك أيضاً لم يتوقف هؤلاء عن القتال مرة واحدة طوال حربهم مع داعش على مدار خمس سنوات.
استناداً لتلك الأحداث الحقيقية الواردة بالمقال - ينهض الفيلم الأمريكي «موصل»- عن حكاية فريق سوات، وهي وحدة عسكرية محلية منشقة قامت بعملية حرب عصابات ضد داعش في صراع يائس لاستعادة أفراد عوائلهم وإنقاذ مدينتهم الموصل. إنها قصة انتقام، نراها بعيون مواطنين عراقيين يمتلكون من الإرادة والعزيمة ما يضع حداً للقمع الإرهابي الذي اغتال أحبائهم، وهدم منازلهم.
يقول المخرج في أحد حواراته: <<لم أتخيل أبدًا أشخاصًا مثل هؤلاء في فريق سواط، رجال يقاتلون إلى ما لا نهاية، في أكثر الظروف جسامة، يُضحون بأنفسهم حتى يتمكن البعض من استعادة منازلهم وعائلاتهم من هذا الكابوس >>

لم أكن قد انتهيت من المقال عندما اتصلت وسألت المنتجين الأخوين جو وأنتوني روسو إن كان بإمكاني معالجة هذه القصة وتحويلها لسيناريو فيلم سينمائي أكتبه، وأخرجه أيضاً، عن هذا المكان الذي مزقته الحرب. كانت الطريقة الوحيدة التي تحقق رؤيتي لسرد هذه القصة الرهيبة الجميلة عن هؤلاء الرجال تتطلب وجود ممثلين عرب يتحدثون لغتهم الأم، اللغة العربية. كان لابد من تنفيذ الفيلم بممثلين عرب،»
كذلك، لا يمكن إغفال أهمية وجود المنتج المنفذ العراقي محمد الدراجي، والذي تم الاستعانة به واستشارته ليمنح عملهم مزيداً من الأصالة والمصداقية، فقام بالبحث عن طاقم الممثلين، وأفادهم بتجربته الخاصة في الحياة في الموصل.
أما ستيف أحد المشاركين في الإنتاج فيقول: عندما قرأته ذلك المقال أثر في عاطفيا، وجعلني أبكي. كنت أعتقد أنها قصة مهمة جدًا جدًا يجب إخبارها للناس ولجمهور السينما، ربما كان أفضل مقال صحفي قرأته على الإطلاق. في حين يؤكد أنتوني روسو: «محاولة فهم ما كان يحدث هناك في العراق والشرق الأوسط كان أمرًا صعبًا ومتطرفًا للغاية، حيث لم يكن لدينا أي تجربة شخصية هناك. كان من الصعب فهمه على المستوى الإنساني. كنت أبحث دائمًا عن طرق للفهم على مستوى إنساني للغاية. وهذا ما حققه هذا المقال ببساطة واضحة وبحيوية، أن تكون قادرًا على التواصل مع الموقف بهذه الطريقة، على المستوى العاطفي، من خلال قصة إنسانية نستطيع أن نفهمها.»
الحقيقة أن مشاهدة شريط «موصل» تؤكد أنه عمل سينمائي مهم، فهو عبارة عن دراما حربية مطرزة بالمشاهد الإنسانية المؤثرة التي تجعلنا نتعاطف مع أبطالها، من دون أن تخلو من لحظات التشويق والإثارة والتوتر، فيها قدر كافي من العنف وإراقة الدماء خلال اطلاق النار والقتل الدموي العنيف المتبادل بين الطرفين.
تدور أحداث القصة في موصل العراق الذي تخلفت عنه القوات الأمريكية، نتعرف على القائد العقيد جاسم الذي يقوم بدوره الممثل سهيل دباش في أداء ممهور بالصدق التام، ثم انضمام المجند الشاب الجديد كاوا للوحدة والذي يقوم بدوره آدم بيسا. هناك شكوك حول الشاب لفترة من الأحداث، أثناء ذلك نعايش تقدم الفريق للأمام في محاولة لكسب واستعادة مساحة من الأرض بالانتصار على خصومهم من داعش، فتتضح الحقيقة وراء سعيهم الدؤوب للعدالة، أغلبهم يبحث عن أفراد عوائلهم، فهناك من فقد زوجته وابنته، وعندما يصل إليها وينجح في انقاذها – بنهاية الفيلم – من بين رجال داعش يكتشف أنها تحمل في أحشائها جنيناً منهم.
يمزج التصوير بالفيلم بين الثابت والمتحرك، بين لحظات عابرة من الهدوء يقطعها التوتر والقلق، جزء ضئيل من الأحداث يدور في شقة مهجورة حيث نرى هؤلاء المقاتلين يسترخون في ذلك المنزل الذي لم يتم قصفه بالكامل بعد، وحيث نشعر بأن بعض أفراد الفريق يراقبون بعضهم، ويتابع بعضهم مسلسل كويتي طويل ينتمي لأوبرا الصابون الكويتية، ويعلقون عليه بسخرية، وذلك قبل أن يتم إلقاء المتفرج مباشرة في قلب معركة نارية، حيث يتعين على الشرطة المحيطة بالشاب كاوا أن تتفوق على داعش. وهكذا تستمر المعركة الدامية لمدة ساعة وأربعين دقيقة في مدينة الموصل، مع ذلك الفريق الذي يجب أن يظل دائمًا على أهبة الاستعداد. ليس أمامهم سوى أن يأخذوا نفسًا قصيرًا، وأن يُقايضوا أشياءهم مقابل الحصول على مزيد من الأسلحة. هناك دقائق محدودة جداً، ربما ٩٠ ثانية فقط. ثم يتعين عليهم الاستمرار مجدداً، أو ربما الهجوم المفاجىء المباغت على العدو.
يعتمد سيناريو الفيلم على الحوار الموظف درامياً ليمنحنا الشعور بالحزن العميق في قلوب هؤلاء الرجال. إنه عمل سينمائي مليء بالتفاصيل الإنسانية مثل عادة العقيد جاسم في تجميع المخلفات والقمامة في كل محطة ومكان يمر به حتي في المخبأ المليء بالركام، حركات الممثلين وأداءهم كذلك مفعم بالإيماءات الصغيرة التي تبقينا على تواصل إنساني معهم، الصدق يتأتي من الأداء كما الهيئة والشكل فالبشرة متعرقة، والغبارا يحاصر المكان ويخيم في الأجواء، إنه فيلم مكثف عن الفوضى في مدينة مزقتها الحرب.
الأمر اللافت المثير للدهشة أن يقوم الأخوين جو وأنتوني روسو بإنتاج فيلم مثل هكذا بدون أي نجوم كبار وبممثلين عرب يتحدثون اللغة العربية بالكامل. إنه عمل تكاد تكون فرصته في شباك التذاكر صفر تقريبًا، الدهشة مصدرها أن يتجه الأخوين روسو لإنتاج هذا العمل في أعقاب النجاح التاريخي الذي حققه فيلم «مغامرة.. نهاية لعبة» Avengers: Endgame والذي وصل لأعلى إيرادات في تاريخ السينما. لكن تمويل فيلم مثل «موصل» يُؤكد أنه لايزال هناك منتجين رغم ما يحققونه من مكاسب وأرباح خيالية من بعض الأفلام لكنهم في ذات الوقت يبحثون عن موضوعات وقصص إنسانية تجذبهم، بطرق سرد متباينة ومختلفة المقاييس، وإن كانت جميعها على اتصال مباشر بالتجربة الإنسانية.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة