*عبدالمنعم الاعسم
ملف جرائم الاختطاف والتغييب على طاولة الاهتمام هذه الايام ، ولو بطريقة خجولة، سعيا، كما في كل مرة، الى مرور العاصفة، وتراجع الانشغال بمصائر الضحايا ، لطي الملف، وفي التحليل الاستباقي لهذا التنكر نجد ان اصابع الاتهام عن اختطاف وتغييب المدنيين العراقيين، ويعدون بعشرات الالوف، تتجه الى اكثر من جهة وزعامة ودولة نافذة في المعادلة السياسية العراقية.
والحال، ان اختطاف وتغييب المواطن ، من اكثر الجرائم الموصوفة بالجرائم الانسانية وتشمل عقوباتها الجنائية وفق المعاهدات والمواثيق الدولية وحتى المحلية طيفا كبيرا من المسؤولين بمن فيهم من لم يشاركك في هذه الجرائم، او سكت عنها او عرقل عمليات البحث والتقصي عن الضحايا ، بل ويكفي انه يتبوء المسؤولية في دائرة الجريمة.. الدائرة السياسية او الادارية على حد سواء.
وقد عرف العراق حالات “الاختفاء القسري” لأسباب سياسية منذ انقلاب شباط 1963 وارتفعت مناسيبه المخيفة مع عودة البعث للحكم عام 1968 وصعود صدام حسين بعد ذلك، ثم خلال الحرب مع ايران واندفاع السلطة في اختطاف المعارضين من الكرد والشيوعيين والاسلاميين وحتى من منتسبي البعث وتغييبهم وتصفيتهم والتنكر لمصائرهم، غير ان المجتمع الدولي وقواه العظمى والهيئات الانسانية تعاملت مع هذه الجريمة الشنعاء بالتهرب والنفاق.
وإذ ارتفع عدد ضحايا الاختفاء القسري، بعد الاحتلال وسقوط نظام صدام حسين العام 2003 ، الى ارقام مخيفة، فان المشكلة باتت اكثر فظاعة بضياع المسؤولية عن اختطاف الضحايا والتنكيل والتنكر لهم، بين جميع القوى المتصارعة على السلطة من غير استثناء، حكومات ومليشيات وجماعات مسلحة تديرها دول اقليمية، بالرغم من ان عائلات الضحايا ويوميات الاحداث الامنية التي مرّ بها العراق تشكل حيثيات اتهام اولية لهذه الجهة (او الزعامة) او تلك، بل ان القوانين والمعاهدات الدولية تقضي باحالة كل من يشتبه بمسؤوليته المباشرة وغير المباشرة عن جريمة الاختفاء القسري (او يتماهل في واجبه حيالها) الى العدالة حتى تثبت براءتهم، وفي المقدمة منهم ممثلي السلطة التنفيذية.
الى ذلك حددت “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006” المسؤولية الاولى بالحكومات واخضعتها الى الحساب عن مصائر اولئك الذين اختطفوا وغيبوا في حال اهملت هذه المسؤولية او حتى عجزت عن ملاحقة المجرمين، كما تتولى المنظمة الدولية (وفق معاهدات اخرى) مهمة التحقيق والتجريم في حالات لاتستطيع الحكومات القيام بمثل هذه المهمة، وفي السجل الدولي ثمة الكثير من الحالات التي اضطرت فيها حكومات الى الاستقالة عندما تخفق في اقناع الرأي العام بجدية البحث عن المختفين قسريا.
ففي المادة 12 من الاتفاقية (الفقرة 1) تلتزم الدول الموقعة بالتحرك على وجه السرعة لملاحقة المجرمين بان “تكفل لمن يدعي أن شخصا ما وقع ضحية اختفاء قسري حق إبلاغ السلطات المختصة بالوقائع وتقوم هذه السلطات ببحث الادعاء بحثا سريعا ونزيها وتجري عند اللزوم ودون تأخير تحقيقا متعمقا ونزيها، وتتخذ تدابير ملائمة عند الاقتضاء لضمان حماية الشاكي والشهود وأقارب الشخص المختفي والمدافعين عنهم، فضلا عن المشتركين في التحقيق، من أي سوء معاملة أو ترهيب بسبب الشكوى المقدمة أو أية شهادة يدلى بها” ثم، في (الفقرة 2) تجري السلطات “تحقيقا حتى لو لم تقدم أية شكوى رسمية”.
ملف الاختفاء القسري لاسباب سياسية في العراق يضم بين دفتيه فظائع اصابت مئات الالاف من العائلات المكلومة، ويمكن ، اذا ما فتح التحقيق العادل والاحترافي فيها، ان تشكل زلزالا سياسيا واجتماعيا ذا ابعاد خطيرة.. فسيظهر الكثير من اللاعبين (الان) على خشبة المسرح السياسي من غير اقنعة او مساحيق، في مواجهة العاقبة.
اتفاقيات دولية
صريحة بادانة الجناة
وافق العراق على الانضمام الى “الاتفاقية الدولية للحماية من الاختفاء القسري” في القرار الذي اتخذه مجلس الوزراء في الخامس عشر من حزيران من العام الفين وتسعة وخلال جلسته السابعة والعشرين، وكانت الاتفاقية قد اعتمدت من قبل الهيئة العامة للامم المتحدة في حزيران من العام 2008 بعد ان كانت بمثابة (اعلان دولي) اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 47/133 المؤرخ 18 كانون الأول/ ديسمبر 1992الذي يجرّم الاختفاء القسري، وليس من الغرابة ان لا توقعه حكومة النظام السابق التي تحتفظ بسجل مخز في اختطاف واخفاء معارضي النظام وكل من تحوم حوله شبهة عدم الولاء للحاكم المطلق.
وقبل الكشف عن مصير قرار مجلس الوزراء والاجراءات التي اتخذت لتنفيذه لفتح ملف عشرات الالوف من المغيبين والمختطفين الذين فقدوا اثرهم طوال اكثر من ثلاثين سنة، ينبغي المرور بابرز مضامين الاتفاقية، سيما بعد ان ظهرت علائم وفيرة على غياب فهم واستيعاب احكامها والتزاماتها واتجاهاتها بالنسبة للجهات والشخصيات والمحاولات الاعلامية التي اوكلت لها وناقشتها، عدا عن الغموض المتعمد احيانا) حيال ما يفرق حالات الاختفاء القسري المحددة في الاتفاقية عن سواها من حالات التنكيل والاضطهاد التي شهدها العراق.
تتضمن الاتفاقية ديباجة(مقدمة) و45 مادة موزعة على ثلاثة اقسام وتستند “إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وإلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، وإلى الصكوك الدولية الأخرى ذات الصلة بمجالات حقوق الإنسان والقانون الإنساني والقانون الجنائي الدولي” وترفع حالات الاختفاء القسري “في ظروف معينة يحددها القانون الدولي، جريمة ضد الإنسانية”.
وتلزم الدول بـ “مكافحة إفلات مرتكبي جريمة الاختفاء القسري من العقاب”.
وفي الجزء الاول-المادة الاولى (2) تحرم الاتفاقية التبريرات التي تطلق للتقليل من شأن هذه الجريمة فتنص على ان “لا يجوز التذرع بأي ظرف استثنائي كان، سواء تعلق الأمر بحالة حرب أو التهديد باندلاع حرب، أو بانعدام الاستقرار السياسي الداخلي، أو بأية حالة استثناء أخرى، لتبرير الاختفاء القسري” وعلى جميع الدول العمل (المادة4) “لكي يشكل الاختفاء القسري جريمة في قانونها الجنائي”.
وإذ يجري التستر على الفاعلين المباشرين وغير المباشرين والتهوين من مسؤولية الموظفين من اصحاب العلاقة في افعال الاختطاف والاخفاء القسري فان (المادة 6) تقضي، في نصوص واضحة، بمعاقبة كل “من يرتكب جريمة الاختفاء القسري، أو يأمر أو يوصي بارتكابها أو يحاول ارتكابها، أو يكون متواطئا أو يشترك في ارتكابها، او كان على علم بأن أحد مرؤوسيه ممن يعملون تحت إمرته ورقابته الفعليتين قد ارتكب أو كان على وشك ارتكاب جريمة الاختفاء القسري، أو تعمد إغفال معلومات كانت تدل على ذلك بوضوح؛ او كان يمارس مسؤوليته ورقابته الفعليتين على الأنشطة التي ترتبط بها جريمة الاختفاء القسري؛ او لم يتخذ كافة التدابير اللازمة والمعقولة التي كان بوسعه اتخاذها للحيلولة دون ارتكاب جريمة الاختفاء القسري أو قمع ارتكابها أو عرض الأمر على السلطات المختصة لأغراض التحقيق والملاحقة، كما لا يجوز التذرع بأي أمر أو تعليمات صادرة من سلطة عامة أو مدنية أو عسكرية أو غيرها لتبرير جريمة الاختفاء القسري”.
وتلزم المواد الثامنة والتاسعة الدول على التعاون في ما بينها لتأمين معاقبة اولئك الذين ارتكبوا جرائم الاختطاف والتغييب، فيما تشدد المادة (10) “ على كل دولة طرف يوجد في إقليمها شخص يشتبه في أنه ارتكب جريمة اختفاء قسري أن تكفل احتجاز أو تجري تحقيقات عادية لإثبات الوقائع. وعليها أن تعلم الدول الأطراف الأخرى بنتائج تحقيقها الأولي”.
وقراءة سريعة في نصوص الاتفاقية قد تساعدنا على الاجابة عن السؤال: لماذا تجري عرقلة تشريع قوانين واضحة بملاحقة ابطال هذه الجريمة، وبينهم من نطالع وجوههم يوميا؟.
مسؤولية الحكومات
تُحمّل الامم المتحدة وفق “الاتفاقية الدولية لحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006” الحكومات المسؤولية المباشرة عن مصائر اولئك الذين اختطفوا وغيبوا، وتكون تحت طائلة الحساب والمساءلة في حال اهملت هذه المسؤولية او حتى عجزت عن ملاحقة المجرمين، وفي السجل الدولي ثمة الكثير من الحالات التي اضطرت فيها حكومات الى الاستقالة في حال لم تتمكن من اقناع الرأي العام بجدية البحث عن المختفين قسريا، ويمكن بهذا الصدد قراءة ملف المغيبين في تشيلي بامريكا اللاتينية ومسؤولية الدكتاتور اغستينو بينوشيت الذي حكم بلاده بين 1973 و1990 واعتقالهفي لندن العام 1998 وتسليمه الى سلطات بلاده بعد سنوات.
المادة 12 من الاتفاقية(الفقرة 1) تلتزم الدول الموقعة بالتحرك على وجه السرعة لملاحقة المجرمين بان “تكفل لمن يدعي أن شخصا ما وقع ضحية اختفاء قسري حق إبلاغ السلطات المختصة بالوقائع وتقوم هذه السلطات ببحث الادعاء بحثا سريعا ونزيها وتجري عند اللزوم ودون تأخير تحقيقا متعمقا ونزيها. وتتخذ تدابير ملائمة عند الاقتضاء لضمان حماية الشاكي والشهود وأقارب الشخص المختفي والمدافعين عنهم، فضلا عن المشتركين في التحقيق، من أي سوء معاملة أو ترهيب بسبب الشكوى المقدمة أو أية شهادة يدلى بها” ثم، في (الفقرة 2) تجري السلطات “تحقيقا حتى لو لم تقدم أيةشكوى رسمية” ويشار ايضا الى ضرورة تامين الصلاحيات والموارد اللازمة لسلطات الملاحقة والتحقيق “بما في ذلك إمكانية الاطلاع على الوثائق وغيرها من المعلومات ذات الصلة بالتحقيق الذي تجريه” فضلا عن “سبل الوصول، وعند الضرورة بإذن مسبق من محكمة تبت في الأمر في أسرع وقت ممكن، إلى مكان الاحتجاز وأي مكان آخر تحمل أسباب معقولة على الاعتقاد بأن الشخص المختفي موجود فيه” كما جاء في (الفقرة 4) .
ويعد التضييق على المعنيين بالاختفاء والمشتبه بتورطهم في اعمال الاختطاف من مسؤولية الحكومات التي ينبغي وفق (الفقرة 4) من المادة (12) ان تتخذ التدابير اللازمة “لمنع الأفعال التي تعوق سير التحقيق والمعاقبة عليها. وتتأكد بوجه خاص من أنه ليس بوسع (المتهمين) بارتكاب جريمة الاختفاء القسري التأثير على مجرى التحقيق بضغوط أو بتنفيذ أعمال ترهيب أو انتقام تمارس على الشاكي أو الشهود أو أقارب الشخص المختفي والمدافعين عنهم، فضلا عن المشتركين في التحقيق”.
وتنزع الاتفاقية الصفة السياسية من جرائم الاختفاء القسري في حالة واحدة حين يكون المتهم بارتكاب هذه الجريمة قد قبض عليه في دولة اخرى، حتى لا تستخدم الصفة في الحيلولة دون تسليمه الى حكومته ( حالة بينوشيت). وفي المادة (13) تحديد دقيق لاليات تعامل الدول الموقعة على الاتفاقية مع المجرمين وسبل تسليمهم فجريمة الاختفاء “لا تعتبر جريمة سياسية، أو جريمة متصلة بجريمة سياسية، أو جريمة تكمن وراءها دوافع سياسية. وبالتالي، لا يجوز لهذا السبب وحده رفض طلب تسليم يستند إلى مثل هذه الجريمة” فيما هي “من الجرائم الموجبة للتسليم في كل معاهدة تسليم مبرمة بين دول أطراف قبل بدء نفاذ هذه الاتفاقية” وفي الفقرة (3) اشارة الى التزام دول الاتفاقية “بإدراج جريمة الاختفاء القسري ضمن الجرائم المسوغة للتسليم في كل معاهدة تسليم تبرمها لاحقا فيما بينها” وتمنع الاتفاقية تذرع بعض الدول بعدم وجود اتفاقيات بينها تلزم بتسليم المطلوبين، فتعد الفقرة (4) هذه الاتفاقية “بمثابة الأساس القانوني للتسليم فيما يتعلق بجريمة الاختفاء القسري” وطبعا لا تجيز الفقرات اللاحقة للحكومات التصرف خارج موصوف الاختفاء القسري بغرض “ملاحقة الشخص أو معاقبته بسبب نوع جنسه أو عرقه أو دينه أو جنسيته أو أصله الإثني أوآرائه السياسية، أو انتمائه إلى جماعة اجتماعية معينة” ولهذا معالجات في اتفاقيات ومعاهدات اخرى.. وله ابطال واسنان ومشانق.
نظام صدام .. اعدامات بعد الاختطاف
حتى السبعينيات من القرن الماضي لم يسجل ملف العراق حوادث تذكر عن اختفاء قسري للاشخاص من أصحاب الرأي، في حين ترافق صعود صدام حسين الى سلطة القرار وادارته المباشرة لجهاز الأمن مع جملة من حالات الإخفاء المتعمد لمعارضين توزعت انتماءاتهم على طائفة من الاتجاهات الاسلامية. اليسارية. القومية. الكردية. البعثية (غير الموالية للدكتاتور) واللافت ان اعمال الاختطاف والتغييب شملت مواطنين من دول عربية مقيمين في العراق حامت حولهم شبهة عدم الولاء او بزعم التجسس لمخابرات اجنبية، لكن منسوب ضحايا الاختفاء القسري بما تنطبق عليه توصيفات الاتفاقية الدولية قفز الى مستويات خطيرة منذ اندلاع الحرب العراقية الايرانية في مطلع الثمانينيات، بل اصبح سياسة رسمية إذ يختطف المواطن من منزله او مقر عمله او من الشارع، ثم تمتنع الحكومة عن الكشف عن مصيره، وتهدد عائلته من قبل رجال الامن وتحذر من عواقب السؤال عنه.
وفيما كانت السلطات تبلغ عائلة الضحايا عن المختطف الذي تم اعدامه وتُسلم جثته لهم مع إلزامها بالتعهد بعدم الاحتجاج او اقامة مجالس العزاء، فان ثمة المئات من معارضي الدكتاتورية والحرب قد غيبوا الى الابد وفقدت اثارهم، الى جانب ابشع حالات الاختطاف الجماعي للسكان الذين وقع عليهم غضب صدام حسين في جنوب العراق عقب انتفاضة العام 1991 وفي كردستان خلال حملة الانفال العام 1987 ووجدت اشلاؤهم في مقابر جماعية ولم يعرف مصير الكثير من الضحايا حتى الان.
في التقارير الدورية لمنظمة العفو الدولية وقائع كثيرة عن الاخفاء القسري مسجلة في مسؤولية نظام صدام حسين واجهزته القمعية المتوحشة، فهناك بالاضافة الى مئة وثمانين الفا من ضحايا الانفال الكرد ثمة مختطفون مجهولو المصير من عائلات الحكيم وبحر العلوم والخرسان ومئات من العائلة البارزانية والعشرات من الكرد الفيليين ومن يطلق عليهم بالتبعية الايرانية وشخصيات من الحزب الشيوعي العراقي(صفاء الحافظ) وتنظيم البعث(السوري).
ويعد الإخفاء القسري لستمائة من المواطنين الكويتيين من قبل حكومة صدام حسين العام 1990 بمثابة جريمة انسانية اضافية شاءت الظروف الناجمة عن غزو الكويت ان تجعل منها محكمة قصاص دولية للنظام، موثقة في قرارات لمجلس الأمن الدولي (686و 687و 1284) وانتهت بسقوطه في 9/4/ 2003 ووقوع العراق تحت سيطرة القوات الاجنبية. وإذ لم توقع الحكومة العراقية اية اتفاقية دولية تلزمها باعتماد مبادئ العدالة وحماية حقوق المعتقلين والامتناع عن التنكيل وممارسة سياسة الاخفاء القسري للمواطنين فانها رفضت استقبال مبعوثي المنظمات الانسانية للكشف عن مصائر المختفين، والتوثق من مزاعم الحكومة بنفي تقارير منظمة العفو الدولية ومنظمات حقوق الانسان المختلفة.
وغير هذا وذاك فان سلطات صدام حسين لم تقدم اجوبة لاستفسارات المنظمات الدولية الخاصة باوضاع السكان والسجون وعدد النفوس.. حتى ان مراسلا اجنبيا ذكر بعد ان غادر العراق انه كان في بلاد بلا ارقام.