كما هي غالبية المناسبات والرموز والعناوين في تأريخنا الملتبس لعراق ما بعد هزيمة العثمانيين وتفكك امبراطوريتهم بعد الحرب العالمية الأولى، عندما اتفق كبار القوم على الاستعانة بملك من الحجاز لتدبير امر إدارة وطنهم القديم؛ يحتفل الصحفيون العراقيون بيوم صدور صحيفة (الزوراء) المصادف في 15/6/1869 بوصفه عيداً للصحافة العراقية، وهم بذلك لم يشذوا عن فولكلورنا في مجال عشق الاستعارة من الآخرين، إذ استعرنا علمنا الوطني من الشقيقة مصر، والنشيد الوطني من قصيدة لشاعر فلسطيني كتبها لمدينته نابلس، وسيل لا يحصى من المناسبات والأعياد والتسميات، التي لا تمت لكنوز هذا الوطن وسيرة أبطاله واحراره ومفكريه ومدوناته وأساطيره بصلة. وباء الاستعارات هذا يعكس حجم الهروب من المسؤوليات التي تقع على عاتقنا في مهمة إعادة امتلاك هويتنا العراقية المترعة بالتتنوع الثقافي وروح الإبداع والابتكار التي ميزتهم مع الأمن والاستقرار. من المعروف عن هذه المناسبة أنها قد اختيرت كعيد للصحافة العراقية بعد عودة البعث للغنيمة (السلطة) العام 1969 وقد احتفل آنذاك بمرور مئة عام على ولادة الصحافة العراقية (1869-1969) وبعد أن صار القيادي البعثي سعد قاسم حمودي نقيباً لها، ليتواصل هذا التقليد من دون أدنى وجع من قلب أو ضمير، الى يومنا هذا مع بقية الاستعارات التي يحرص “أولي الأمر الجدد” على بقائها وديمومتها، بوصفها أمانة تأريخية من أسلافهم الذين قضوا نحبهم على طريق الرسائل الخالدة.
مثل هذه المواقف في التعاطي مع هذه القضايا المهمة، تستند الى إرث طويل من الخنوع والاستلاب، ومن المؤسف ان تنخرط ما يطلق عليه بـ (السلطة الرابعة) في هذا الحفل التنكري (الاستعارات)، وهي بذلك تنحرف عن وظيفتها الأساس أي اقتفاء أثر المعلومة والمعرفة، وتقديمها للمتلقي كي تساعده على تشكيل وعيه السليم والموضوعي للأحداث ولما يدور حوله، لا أن تتحول هي نفسها الى عبء إضافي يزيد من عتمة والتباس المشهد الراهن الذي لا يحتاج الى المزيد من تقاليد الخنوع والضياع. كل من يتابع واقع الحال الذي انحدرنا إليه بعد سلسلة الحروب والنزاعات وما أفرزته من تشرذم وتفسخ اجتماعي وقيمي وضحالة في الوعي؛ يدرك نوع الدور الذي لعبته الصحافة ووسائل الإعلام المختلفة في ذلك الانحطاط، وهي لم تتخلف عن بقية العوامل السياسية والاجتماعية التي أوصلتنا الى هذا الحال الذي لا نحسد عليه.
كما أشرنا فأن ما يطلق عليه بـ (عيد الصحافة العراقية) لا يشذ عن الكثير من المناسبات والرموز التي نحتفي بها بوصفها محطات وطنية عراقية؛ وهي غير ذلك تماماً. وكل ذلك يعود الى ضعف وهشاشة ما قمنا به لأجل استرداد وإعادة تشكيل الهوية العراقية وبما ينسجم مع الإرث المشرق لشعوب هذا الوطن القديم أولاً، وبما يتفق وتحديات عصرنا ثانياً، وهذا ما يمكن العثور عليه عند الرعيل الأول من الوطنيين العراقيين من نسيج جعفر أبو التمن ورفاقه، وغير القليل من الأحرار والمفكرين والمبدعين وعلى رأسهم جواد سليم الذي دوّن ذلك بوديعته الخالدة في ساحة التحرير (نصب الحرية). ذلك المشوار الذي قطع بفعل تحول الإمكانية السلبية الى واقع، عندما استباح حثالات البشر هذا الوطن القديم لتتسلل إليه كل هذه الاستعارات الزائفة..
جمال جصاني
الصحافة العراقية والعيد المستعار
التعليقات مغلقة