أندرو شنغ
زميل بارز في المعهد الآسيوي العالمي في جامعة هونغ كونغ
لكل قرن، فيما يبدو، عصره الخاص به. فقد أُطلق على عصر النهضة، من منظور فلسفي، اسم عصر المغامرة. وجاء عصر المنطق في القرن السابع عشر، تلاه عصر التنوير. وكان القرنان التاسع عشر والعشرون عصري الأيدولوجيات والتحليلات، على التوالي. أما القرن الحادي والعشرون، فأستطيع أن أزعم أنه عصر التعقيد.
من ناحية، تقدمت العلوم والتكنولوجيا إلى الحد الذي يستطيع فيه الإنسان خلق حياة وحتى، من خلال تقنيات التعديل الجيني فائقة التقدم، تصميم أنواع جديدة. يتوقع عالم المستقبليات يوفال نوح هراري الظهور الوشيك «للهومو ديوس»: وهو نوع من البشر يستطيع أن «يلعب دور الإله» عن طريق التحكم في الطبيعة بوسائل لا حصر لها، بما في ذلك تأخير الموت وقهره في نهاية المطاف فمعظم الاتجاهات التكنولوجية التي حددتها وزارة الدفاع الأميركية بوصفها مهمة في السنوات المقبلة لم نسمع عنها منذ ثلاثين عاما فقط.
ومن ناحية أخرى، معظم البشر تحاصرهم مشاعر اليأس والإحباط، بسب التحديات التي نبدو عاجزين عن مواجهتها، بدءا من التلوث والتغير المناخي وحتى الراديكالية والإرهاب اللذان لا هوادة فيهما. وقد ساهم التفاوت الاقتصادي – تعززه خسائر الوظائف الناتج عن الأتمتة، والنظم الاجتماعية المتأصلة، وديناميات السلطة السياسية المدمرة– مساهمة كبيرة في تولد هذا الإحساس بالعجز.
في الوقت الذي تصل فيه قوتنا لمستوى الخلق، تواكبها قوتنا على التدمير لمستويات غير مسبوقة – عندما يمكن أن يتسبب إطلاق أحد الأسلحة في تغيير مسار التاريخ – يصبح وضع نظام أكثر إنصافا وفعالية أمرا ملحا وفي عصر التعقيد الجديد هذا، نحتاج إلى نموذج جديد للتفكير بشأن العالم، ومن ثم، إلى توجيه جهودنا للمضي قدما نحو السلام والرخاء.
لطالما اقتضت الضرورة أن تسود وجهة نظر عالمية لتشكيل المصير البشري. لم يكن الإسكندر الأكبر ليقهر معظم العالم المعروف في وقته دون تأثير معلمه الفيلسوف أرسطو عليه. ولم يكن فريدا في ذلك: إذ إن وراء كل إمبراطورية عظيمة فيلسوفا أو مؤرخا عظيما أضفت وجهة نظره العالمية الشرعية وحتى الأهمية القدسية على التوجه الإمبريالي. (وحين يُكتب التاريخ بأيدي الضحايا، وليس المنتصرين، يتلاشى رونق بناء الإمبراطوريات كثيرا).
وحيث إننا بصدد وضع رؤية عالمية جديدة لنوجه مستقبلنا، يجب أن نتبنى منظورا عالميا حقيقيا. في الماضي، كان تحليل تطور نظرة البشرية إلى العالم يميل إلى التركيز على الغرب، وذلك بعد التقدم الذي أحرزته أوروبا وأخيرا أميركا بدءا من الاستكشاف والاستعمار وبناء الإمبراطوريات وحتى التصنيع وانتشار علاقات السوق والابتكار التكنولوجي.
وفي القرن الحادي والعشرين، يُجرى تنقيح هذه الطرح فالأزمة الاقتصادية العالمية التي نشأت في الولايات المتحدة في عام 2007 أظهرت هشاشة انموذج البلد المتقدم، وأسهمت في صعود المزيد من وجهات النظر العالمية الجديدة متعددة الأقطاب، تتحدى فيها الاقتصاديات الناشئة، بقيادة الصين والهند وروسيا، الوضع الراهن تحديا كبيرا.
وفي هذه الأثناء، تزايد ارتباط التحديات التي تواجهها الدول، مع وجود الاتجاهات العالمية الكبرى، بدءا من التغير المناخي وزيادة سيطرة القطاع المالي، التي تتجاوز نطاق الحكومات الفردية. وكما أوضح كلا من عالم الفيزياء المهتم بعلم البيئة، ريتيوف كابرا، وعالم الكيمياء بيير لويجي لويزي في كتابهما الصادر عام 2014 بعنوان «»The Systems View of Life، أن المشكلات الرئيسة التي نواجهها في الوقت الحالي هي مشكلات منهجية – كلها مترابطة ومتداخلة. وبالتالي، فهي تتطلب حلولا منهجية.
وفي هذا السياق، يحتاج العالم إلى وجهات نظر أكثر شمولية تقبل التعددية والتنوع – من حيث الجغرافيا والتقاليد ونماذج الإدارة الرشيدة –وتعكس تعقيدات الاتجاهات العالمية الحالية وتعززها. ويجب أن يقر هذا النهج ليس فقط بحاجة الدول إلى العمل جنبا إلى جنب لتشكيل العالم، ولكن أيضا بحدود قدراتنا على تشكيله .
تصرفت البشرية لفترة طويلة في إطار نموذج الحتمية؛ فنحن نعتقد أن بإمكاننا التنبؤ بالنتائج والتلاعب بها. بيد أننا لم نكتشف أي قوانين أو معادلات طبيعية تفسر كيف تطورت الحياة لتصبح على وضعها الحالي، ناهيك عن التنبؤ بكيفية تطورها في المستقبل. لقد بلغت الحتمية منتهاها، ويجب أن يحل محلها انموذج يكون الشك فيه مقبولا بوصفه حقيقة لا يمكن التقليل من شأنها في الحياة.
وفي العلوم الطبيعية، يحدث هذا بالفعل. حيث قُبلت نظريات ميكانيكا الكم والنسبية العامة والشك بوصفها طريق المضي قدما في الفيزياء والرياضيات. أما في علم الأحياء وعلم الأعصاب، يتزايد استحسان النظرية القائلة بأن الحياة تنبثق من خلال الإدراك (الوعي الذاتي والتولد الذاتي) وتتغير باستمرار، مما يعني عدم وجود «صيرورة محددة مسبقا» كما يقول عالم الأحياء ستيوارت كوفمان.
ولكن في العلوم الاجتماعية – من الاقتصاد إلى السياسة – لم يحدث هذا الانتقال بعد. لا يزال الاقتصاد يسير في مسار خطي على نطاق واسع، مسترشدا بالإطار الحتمي لنيوتن في القرن الثامن عشر. ولكن النظريات الآلية لا يمكنها التعامل مع النظم الحية والمعقدة والكمية غالبا. في الواقع، يعد المنطق الاختزالي القائم على الافتراضات التبسيطية، التي تتحكم في الاقتصاد هذه الأيام منطقا منقوصا في أحسن الأحوال، ومن المحتمل أن يكون مغلوطا في جوهره.
وبالمثل، في السياسة، نستمر في صراعاتنا حتى نصل إلى حلول منهجية، لا سيما أننا لا نستطيع في الغالب الاتفاق بشأن طبيعة المشكلة المعقدة التي نواجهها. يعكس هذا التصرف جزئيا الطبيعة العالمية للتحديات الحالية وتنوع وجهات النظر التي يجب التوفيق فيما بينها. والأكثر أهمية من ذلك، يعكس الحقيقة القائلة بأن البشر ليسوا عقلاء طوال الوقت – وهي حقيقة سيسعى «اقتصاد عصر التعقيد» الجديد إلى بذل المزيد من الجهد للاعتراف بها.
وعلى نطاق أوسع، يجب أن تقدر «وجهة النظر العالمية تجاه التعقيد» الجديدة أن السلوك الإنساني ينبثق من كل شيء بدءا من السياسة والاقتصاد وحتى الزراعة وعلم النفس – وحتى من التكنولوجيا ذاتها. ففي عصر التعقيدات، تتطلب المؤسسات التي نبنيها وندعمها نهجا منظما ينبثق جنبا إلى جنب مع العلوم الطبيعية التي تتقدم بسرعة.
عصر التعقيد العالمي
التعليقات مغلقة