مجلس القضاء الأعلى وحده من يملك القدرة والامكانية على وضع حد للفساد، فالسلطة التي تمتلكها السلطة القضائية بشتى مكوناتها والتي يمثل مجلس القضاء الأعلى العمود الفقري لها، تستطيع أن توقف مد الفساد، بالقانون وحده. فهيئة النزاهة لا يمكنها القيام بأي عمل إلا تحت إشراف قاضي التحقيق المختص، والقاضي هنا يمكنه أن يكون الراعي والمشرف على جميع فعاليات الهيئة، يوجه موظفيها ومحققيها نحو سلوك أقصر الطرق لمواجهة الفاسدين، وحتى جهود بقية الأجهزة الرقابية، كلها تنتهي تحت يد قاضي التحقيق، الذي بدوره يقدر تلك الجهود ويتخذ القرار المناسب على ضوئها. إن نظر آلاف القضايا التي تخص الفساد من قبل القضاء لا يعني أن جميع تلك القضايا تمس المال العام أو تدين الفاسدين حقا، فالعبرة بالنوع لا الكم، فيمكن أن تنظر المحكمة الى بعض عشرات من الدعاوى المهمة والتي تتعلق بعمليات اختلاس كبيرة وهدر كبير في المال العام، أفضل بكثير من نظر آلاف الدعاوى لا تمس المال العام، ومرتكبوها لم يتسببوا بضرر أو هدر في اموال الدولة، وإنما كانوا ضحية لأجهزة رقابية معينة تحاول إثبات وجودها عبر زج أكبر عدد من الموظفين في المحاكم، وإلا، هل يمكن اعتبار أن إحالة موظف الى محكمة الموضوع لم يثبت ارتكابه جرما بحق المال العام انجازا؟ هل يمكن مساواة من عجزت اللجان التحقيقية عن إثبات هدر أو اختلاس أو سرقة ضد الموظف المحال إليها مع موظف أو مسؤول أو صاحب درجة خاصة تسبب بهدر وضياع ملايين الدولارات؟ هنالك الكثير من الدعاوى التي تنظر من قبل هيئة النزاهة وتحال الى محكمة الموضوع استنادا لمحاضر تحقيقية لا سند قانوني لها، اضافة الى أن تلك المحاضر لم تتضمن الاشارة الى الاحالة الى المحاكم، بل فرض عقوبات انضباطية فقط، وبرغم هذا، فإنه يتم إحالة الموظف الى محكمة الموضوع.
في حين أن القانون صريح في أن الاحالة لا يمكن ان تتم إلا بعد أن ترى اللجنة التحقيقية أن الفعل المنسوب الى الموظف يشكل جريمة اضافة الى وجود ضرر وهدر في المال العام، فعندئذ تقرر تلك اللجنة إحالة الموظف الى المحكمة المختصة للتحقيق معه. ما يحصل أن مجرد الاخبار عن وجود مخالفة او جريمة، يعني أن تلك الجريمة متحققة حتى لم تتحقق اركانها، والموظف المشكو منه عليه ان ينتظر اثبات براءته من قبل قاض الموضوع( الجنح او الجنايات) وهذا الأمر يتنافى مع بديهيات القانون. وهذا الأمر يفسر كثرة القضايا التحقيقية التي تنظرها هيئة النزاهة ومحاكم التحقيق. مجلس القضاء الأعلى يمكنه أن يحل هذه المشكلة، عبر الاعتماد على نفسه فقط، من دون تكليف جهات أخرى بالتحقيق، بمعنى أن يلجأ الى الادعاء العام، بوصفه الجهة الأصيلة في مكافحة الفساد، وإن قانون الادعاء العام رقم 49 لسنة 2017 أعطى الحق لمجلس القضاء الأعلى بوضع تعليمات لتسهيل تنفيذ أحكامه، بمعنى أن المجلس يمكنه أن يفعل قانون الادعاء العام من خلال وضع تعليمات لتسهيل تنفيذ احكامه، ومن تلك الأحكام هي تشكيل مكاتب للادعاء العام في الوزارات تمارس تلك المكاتب الاختصاصات المنصوص عليها في القانون ومنها التحقيق في قضايا الفساد وليس تكليف جهات آخر خلافا للقانون، حيث ثبت من خلال التطبيق العملي أن تلك الجهات لم تستطع تقديم أنموذج حقيق للتطبيق السليم للقانون. إن مجلس القضاء الأعلى له القدرة والامكانية والارادة في تغيير مسار مكافحة الفساد نحو الأفضل وهو ما سيحصل في قادم الأيام.
سلام مكي