كيث جونسون
عرض: مرﭬت زكريا
تشعر اليابان بتخوفات كثيرة فيما يتعلق بأمنها القومي جراء صادراتها التكنولوجية إلى كوريا الجنوبية، وكأن الحرب العالمية الثانية مازالت تلقي بظلالها على العالم مرة أخري. منذ بداية يوليو/حزيران لعام 2019، قيدت اليابان صادرات المواد الأساسية المستعملة في صناعة التكنولوجيا الفائقة بكوريا الجنوبية، ومن هنا شنت البلدان حربًا تجارية متصاعدة. التي إذا استمرت، أو ازداد الوضع سوءًا، من الممكن أن ينتهي الأمر إلى تقويض العلاقات الاقتصادية الثنائية بين البلدين، إضافة إلى تعطيل صناعة الهواتف الذكية العالمية التي على وشك بدء تشغيل الجيل الخامس من تكنولوجيا الهواتف المحمولة التي طال انتظارها.
أولاً-ما الذي يحدث؟
ففي الأول من يونيو/حزيران لعام 2019، أعلنت اليابان أنها ستقيد تصدير ثلاث مواد كيميائية إلى كوريا الجنوبية تُستعمل في تصنيع أشباه الموصلات والشاشات المسطحة، وهي مكونات رئيسة للهواتف الذكية وغيرها من التقنيات المتقدمة. بالمقارنة مع الحرب التجارية الضخمة بين الولايات المتحدة والصين، تتأثر فقط مجموعة قليلة من المنتجات، لكن الخطوة اليابانية مستهدفة، فكوريا الجنوبية، أكبر منتج للرقائق التكنولوجية، واليابان، أكبر مورد للمواد الكيميائية المستعملة في صنعها.
بعد أسبوعين من بدء الخلاف التجاري، هناك القليل من الإشارات على أنه بدأ في التراجع؛ فخلال الاجتماع الذي استمر إلى ما يقرب من ست ساعات بين المسؤولين اليابانيين والكوريين الجنوبيين بشأن العقوبات الاقتصادية. كما حذر الرئيس الكوري الجنوبي مون جاي-إن من أن المعركة التجارية بين البلدين كسرت إطار التعاون الاقتصادي الذي دام نصف قرن، وقدمت كوريا الجنوبية شكوى لمنظمة التجارة العالمية بشأن ما تسميه الممارسات التجارية اليابانية غير العادلة.
ثانياً-المعركة التجارية
بدأت اليابان في تقييد صادرات ثلاث مواد كيميائية -غاز فلوريد الهيدروجين، بوليميد المفلور، ومقاوم الضوء -بسبب مخاوف تتعلق بالأمن القومي. أكد المسؤولون اليابانيون على أن كوريا الجنوبية لا تشرف بنحو كاف على الاستعمال النهائي لتلك المواد الكيميائية، والتي يمكن أن يكون لها أيضًا تطبيقات عسكرية خارج مجال السلمي للتكنولوجيا، حتى أنها ألمحت إلى أن سيول ربما أعطت كوريا الشمالية إمكانية الوصول إلى بعض السلع، في الوقت الذي ينكر فيه المسؤولون الكوريون الجنوبيون هذه الادعاءات وقاموا بالفعل بالتحقيق في استيراد واستعمال المواد الكيميائية ولم يجدوا أي مخالفات. ووصفت الخبيرة اليابانية بالمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI) «سيلين باجون « الاتهامات اليابانية بالخطيرة للغاية، لكنها لم تقدم أي أدلة على أي تواطؤ بين كوريا الجنوبية وكوريا الشمالية حتى الآن، ولكنه أمر مقلق للغاية بالنسبة لمستقبل العلاقات الاقتصادية بين البلدين، سيما في غياب أي استعداد سياسي من الولايات المتحدة للتوسط.
ثالثاً-الدوافع الحقيقة للحرب التجارية بين البلدين
يعتقد معظم الخبراء أن الحرب التجارية التكنولوجية بين البلدين تذكرنا بظلال الحرب العالمية الثانية وتحديداً ما يدور حول غضب كوريا الجنوبية من استخدام اليابان للعمل القسري في أثناء الاحتلال أبان الحرب وما يراه الكثيرون في كوريا الجنوبية في رغبة اليابان بالاعتراف الكامل بأنشطة الحرب في البلاد أو تعديلها.
يبدو أن السبب المباشر للحرب التجارية هو قضية محكمة كوريا الجنوبية في أواخر عام 2018، والتي قضت بأن شركة Nippon Steel، أكبر شركة للصلب في اليابان، استعملت السخرة خلال الحرب وأمرت بتعويض بعض الناجين من كوريا الجنوبية بحوالي 89000 دولار لكل منهم. (صادرت المحكمة الأسهم التي تملكها شركة Nippon Steelفي شركة كورية جنوبية لكنها لم يتم بيعها بعد)، وهناك قضايا أخرى ضد عشرات الشركات اليابانية الأخرى التي يتم النظر فيها في المحاكم الابتدائية. في الوقت الذي تجادل فيه اليابان بأنها قد عدلت بالفعل بتسوية نقدية في اتفاق عام 1965 الذي أعاد تأسيس العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، لكن محاكم كوريا الجنوبية لا تعترف بذلك. حذر رئيس الوزراء الياباني «شينزو آبي» في 2019 كوريا الجنوبية من أنها إذا نفذت أحكام المحكمة، قد تنتقم اليابان من خلال الإجراءات الاقتصادية. في ديسمبر / كانون الأول للعام ذاته، اتهمت اليابان سفينة بحرية كورية جنوبية باستخدام رادارها للإغلاق على متن طائرة يابانية، وقالت كوريا الجنوبية إن الطائرة اليابانية تعاملت مع ربان السفينة بنحو غير لائق.
رابعاً-محددات
النزاع التجاري
من الناحية الاقتصادية، يعد الضرر محدودًا حتى الآن، فما تزال الشركات الكورية الجنوبية تستخدم المواد الكيميائية المخزنة للحفاظ على الإنتاج. ولكن إذا استمرت القيود التجارية اليابانية لأكثر من بضعة أشهر، فستعانى الشركات الكورية الجنوبية من ضغوط شديدة لإيجاد مورد بديل. وعليه، حذر اتحاد شرائح كوريا الجنوبية من أن ذلك سيؤدي إلى نقص كبير في رقائق السيلكون التي تستخدم في صنع الأجهزة التكنولوجية، مما يؤدي إلى ركود أو تراجع في أحدث التقنيات الموجودة على مستوي العالم.
والأسوأ من ذلك، أن اليابان قد تفرض مزيد من الضغوط التجارية، حيث أقر مسؤولون من اليابان أن طوكيو تستعد لإخراج سيول من قائمة الدول التي تتمتع بتسهيلات تجارية معها فيما يتعلق بمئات السلع المرتبطة بالتكنولوجيا والتي من شأنها تصعيد النزاع التجاري بما يؤدى إلى توتر متزايد في العلاقات بين الطرفين.
في السياق ذاته، تؤكد المعركة التقنية بين اليابان وكوريا الجنوبية حجم المخاطر التي يمكن أن تواجه النظام التجاري العالمي بفضل الانتهاك الصارخ لاستثناءات «الأمن القومي» لفرض قيود تجارية. كما استعملت إدارة ترامب مرارًا تشريعًا أميركيًا عمره عقودًا لاستدعاء ما يسمى بمخاوف الأمن القومي لفرض رسوم جمركية على واردات الصلب والألومنيوم وهددت بالقيام بالشيء ذاته في مجال قطع غيار السيارات مما يسهم في توسيع مفهوم الأمن القومي إلى أقصى حد. في الوقت الذي تجادل فيه الولايات المتحدة الأميركية بأنها تستطيع وحدها تحديد ما الذي يهدد الأمن القومي، فضلاً عن أنها ما تحدد ما الذي يمكن أن ينتهك قواعد منظمة التجارة العالمية. ومع ذلك،
فقد بدأت منظمة التجارة العالمية لأول مرة بالتحقيق في أعذار الحكم الذاتي، التي تذرعت بها إدارة ترامب فيما يتعلق بروسيا وحربها التجارية مع أوكرانيا. فعندما بدأت إدارة ترامب باستدعاء الأمن القومي فقط لحماية الصناعات التحويلية المحلية ورفع الرسوم الجمركية على الأصدقاء والأعداء على حد سواء، حذر خبراء التجارة من أنها تفتح «صندوق باندورا» الذي يتضمن الانتهاكات التجارية التي يمكن أن تهدئ عقودًا من التقدم في هدم الحواجز أمام التجارة العالمية. خامساً-مستقبل الحرب التجارية بين البلدين يتطلب نظر منظمة التجارة العالمية في النزاع بين اليابان وكوريا الجنوبية سنة أو أكثر حتى مع رفض الولايات المتحدة الأميركية السماح بتعيين قضاة جدد في هيئة الاستئناف التابعة لمنظمة التجارة العالمية. في هذه الأثناء لا يمكن أن تلعب الولايات المتحدة الأميركية دورًا نشطًا في نزع فتيل القتال بين حلفائها الرئيسين في آسيا؛ حيث أكد كبير الدبلوماسيين الأميركيين في آسيا «ديفيد ستيلويل»، إن واشنطن ليس لديها خطط للتوسط، لكنها تريد من البلدين التركيز على التهديدات الإقليمية الحقيقية والتوصل إلى حل، فضلاً عن أن ترامب غير مهتم بإدارة التحالف، وإذا لم يكن أحد في الإدارة الأميركية مستعدًا للوقوف ومحاولة إعادة الطرفين إلى الصواب، فمن المرجح أن تستمر العلاقة بين البلدين في التصعيد والتوتر.
المركز العربي للبحوث والدراسات