التظاهرة الاخيرة التي كررت الاساءة لسمعة العراق المستباحة، عندما اعتدت على السفارة البحرينية في بغداد، تحت الذريعة المزمنة الدفاع عن فلسطين؛ تؤكد ما اشرنا اليه مراراً حول نوع وطبيعة مثل هذه النشاطات، التي فقدت روحها وهويتها الحضارية الراقية منذ وصول “حثالة الريف واوباش المدن” الى السلطة قبل أكثر من نصف قرن، عندما تحولت “التظاهرات المليونية” الى اداة بيد الاجهزة القمعية للنظام المباد في الوصول الى مآربها وغاياتها المتنافرة والاهداف النبيلة التي ولدت من أجل تحقيقها هذه النشاطات الواعية والمنظمة. ومن الاهمية بمكان الاشارة الى ان العراق كان في صدارة بلدان المنطقة في ممارستها، وقد عبرت في الاربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم، عن تطور نوعي لمختلف شرائح المجتمع وعلى رأسها النخب السياسية والثقافية، حيث عكست شعاراتها واداراتها وسلوكها ذلك بشكل يدعو للفخر والاعتزاز، لا كما هي عليه “تظاهراتنا” الحالية الفاقدة لمثل تلك المستلزمات الاساسية.
ان مثل هذه “التظاهرات” لا تشذ عن كامل المنظومة السائدة حالياً في الدولة والمجتمع، وبمقدور المتابع للمشهد الغرائبي الراهن ان يكتشف حجم التشابه بينها وبين ما يحصل في اعلى سلطة تشريعية في البلد (مجلس النواب) حيث المشتركات العديدة، وكذلك في باقي السلطات الرسمية منها والشعبية، أي انها جزء اصيل من مناخات وتمترسات هذا “الوكت”. مناخات تعيد تدوير الاصطفافات والهموم والاهتمامات الزائفة لينتهي بنا المطاف، الى ماراثون سياسي وانتخابي يقذفنا بسلطات تشريعية وتنفيذية لا تقل فتكاً عن سابقاتها، أي ان مثل هذه النشاطات المنزوعة الهوية والروح تفضي الى مزيد من العتمة والالتباس وضحالة الوعي، وهذا ما حصدناه طوال أكثر من 16 عاماً مما يفترض انها مرحلة للتحول صوب الديمقراطية وسيادة دولة القانون ومؤسساتها الحديثة.
يقول احد المشاركين في التظاهرة التي اقتحمت حرمة السفارة البحرينية؛ “انهم يريدون بعث رسالة قوية لمؤتمر البحرين” وهو المؤتمر الذي اطلقت فيه واشنطن الجانب الاقتصادي من خطتها للسلام في الشرق الاوسط، والذي عقد في المنامة يومي 25 و 26 حزيران. لكن الرسالة الفعلية لمثل هذه التظاهرات كانت على غير ذلك تماماً، وهذا ما أشار اليه بيان الحكومة العراقية والذي وصفها بـ “اعمال تخريبية مخالفة للقانون وسلطة الدولة وحصانة البعثات الدبلوماسية”. السلطات الحكومية فضت الاقتحام (بعد سقوط الفاس بالراس) واعلنت عن اعتقالها لعدد منهم، لكن الرسالة الحقيقية وصلت لدول المنطقة والعالم كما في ممارسات سابقة؛ ان هذا البلد المنكوب ما زال بعيدا عن سن التكليف الحضاري وما زال عاجزاً عن امتلاك واسترداد الهيبة للدولة والقانون. أما القضية الفلسطينية فآخر ما تحتاجه مثل هذه الفزعات والتي قال عنها نزار قباني قبل أكثر من نصف قرن بانها “العنتريات التي ما قتلت ذبابة”.
لسنا بصدد تقصي الاسباب والقوى الفعلية التي تقف خلف هذه الاعمال، لانها معروفة تماما. لكن بمقدور الحكومة العراقية استرداد بعضا من مصداقيتها المهدورة وكسرة من خطاباتها المملة؛ حول اعادة الامل لشعوب هذا الوطن المنكوب بامتلاك مشروع حقيقي لاسترداد هيبة الدولة والقانون، ومثل هذه التجاوزات الممنهجة فرصة لها لتكسر التردد في مشوار الالف ميل…
جمال جصاني