بمقدور هذه المفردة الاكثر رواجاً وشعبية (الفرهدة) تقديم خدمات اركيولوجية ومعرفية لا مثيل لها، لا لسكان هذا الوطن المنكوب بسلالاتها وحسب بل لكل المهتمين باحواله الغرائبية من مختلف الامصار والبلدان. قد تبدو للوهلة الاولى مجرد مفردة شعبية بريئة وعابرة، لكننا ومع قليل من الجدية والجهد والاهتمام، سنجد انفسنا أمام كم غير محدود من المعطيات التاريخية والاجتماعية والنفسية، أمام منظومة واسعة وعميقة من المعتقدات والسلوكيات وطلاسم اللاشعور، التي تحكم قبضتها بثقة واقتدار على خيارات من استوطنت حطام عقولهم وضمائرهم. وهي اليوم وبالرغم من ادوارها “الشريرة” وشراهتها في قضم “اليابس والاخضر”؛ بوسعها تقديم العون لنا بفهم جوانب اساسية من غرائبية المشهد الراهن، وعلل الكثير من حالة الاستعصاء المزمنة التي ترافقنا زمن الحرب أو السلم.
لنجرب الاستعانة بها في وعي ما يجري حالياً مع ادارة السيد عادل عبدالمهدي، وعجزه عن اكمال تشكيلته الحكومية ومعالجة ملف (الدرجات الخاصة) والتي تذكرنا “ادارتها بالوكالة” بدستور النظام المباد المؤقت والذي استمر أطول من الدساتير الدائمة. لا يحتاج المتابع لكثير من الجهد والذكاء كي يتعرف على الاسباب التي تقف خلف كل هذا العجز والفشل في التعاطي مع مثل هذه الملفات الاشد فتكاً في حياة الدولة والمجتمع، لا سيما وهي تتكرر مع كل فزعة ودورة انتخابية تجرى، حيث يتم فيها ما جعلناه عنواناً لمقالنا هذا أي (دمقرطة الفرهدة). عندما يجتمع الشتيتان (الفرهدة والديمقراطية) تظهر على سطح الاحداث ظواهر وحالات من المسخ السياسي والعقائدي والاجتماعي، تحتاج الى الكثير مما نفتقده اليوم لوعيها وتشخيصها بشكل دقيق. لقد ابتكرت الطبقة السياسية التي تلقفت مقاليد امور “الغنيمة الازلية” ربيع العام 2003؛ شكلا من أشكال النظام السياسي يمكن تخيله على صورة هرم قاعدته سلاح الدمار الشامل الذي عجزت عن الوصول اليه فرق التفتيش الدولية أي “الفرهدة”، وهي اليوم وكما أشرت قد تم تخصيبها مع هذا الوافد اليتيم والغريب والفاقد للحول والقوة “الديمقراطية” لينتج لنا احد أسوأ وأخطر المسوخ السياسية في التاريخ الحديث.
ليس من قبيل الصدفة أن يتبوأ العراق صدارة الدول والمجتمعات الاكثر فشلا وفسادا بين بلدان العالم، بالرغم من مرور أكثر من 16 عاماً على ما يفترض انها مرحلة للعدالة والتوازن الديمقراطي. انها “دمقرطة الفرهدة أو فرهدة الديمقراطية” هي من سوف تعصف بما تبقى للعراقيين من آمال وتطلعات مشروعة للعيش كباقي الامم التي اكرمتها الأقدار بالديمقراطية البعيدة عن كل ما له صلة بارث الفرهدة من لصوصية وشراهة وقيم دونية وعدوانية. ان اصرار كتل الخراب الديمقراطي؛ على اعادة تقسيم اسلاب الدرجات الخاصة على اساس معايير الخراب هذه، والذي يفضي الى اعادة تسليم المفاصل الحيوية لما تبقى من مؤسسات الدولة، لجيل جديد من قوارضهم السياسية الشابة، يعني الاستعداد لاستقبال جيل جديد من الكوارث والاهوال. ومما يثير الحزن والالم ان المعطيات جميعها تشير الى ان “اولي الامر الحاليين” لن يحيدوا عن هذا السبيل والتي تفرضه عليهم “ثوابتهم” الجليلة والتي يخفق قلبها ويسيل لعابها لـ “آليات الديمقراطية” وتتربص سيوفها ورصاصها ومتفجراتها لفلسفتها وغاياتها المارقة…
جمال جصاني