علوان السلمان
السرد..فن تخييلي وسيلته اللغة الموحية..القادرة على تصوير الواقع بلحظاته ومحاكاته بموجوداته وتناقضاته المتصارعة (الذاتية والموضوعية) المؤطرة باطار المكان والمرتكزة على معايير تنحصر في الجوانب الدلالية والشكلية والبصرية.. ورؤية جمالية تثير الوجدان وتستفز الذاكرة..يحققها منتج(سارد) بوعي متكىء على موقف فكري وفني..
و(احلام العبوة الرابعة)..الرواية التي انتجت عوالمها ذهنية السارد اسعد اللامي الخازنة لمشاهدها..واسهمت دار لارسا في نشرها وانتشارها/2019..كونها تتكىء على مجموعة من الثيمات والمحاور الدلالية التي تكشف عن تداخل الاجتماعي والانساني وانصهارهما في بوتقة موضوعية تؤطر عوالم النص ومكوناته باعتماد لغة مشحونة بالانفعالات و(القائمة على الانزياح)كما يرى جان كوهن.. لخلق صور فنية موحية بظلال الفاظها ومعانيها….ابتداء من العنوان النص الموازي والقيمة السياقية المكتنزة بدلالة رمزية للوجود الواقعي..والكاشف عن تداعي المعاني وتفجير الاسئلة..كونها فضاء يحتضن فضاءات السرد بعنواناته ودلالاته..
(نعم يا يسار في تلك الايام كانت هناك امرأة، امرأة طواها النسيان بعد ان ساهمت هي الاخرى في ترسيخ مرضي وتركتني اجتر عذاباتي معها زمنا طويلا ولا اعرف من اين وجدت العبوة الرابعة الطريق اليها واعادتها الي بعد مضي اربعين عاما لتجلس امامي واحكي لها عن كل شيء، ولكن اي امرأة كانت تلك الغادرة، من حقك ان تفخري يا يسار..لقد كانت انثى حقيقية يمكنها بابتسامة صغيرة ان تقنع حصانا بأن يبيض..
هيه، انت، انت ايها الغارق في التعاسة والاحزان وبشاعة الحرب من الممكن التغاضي عن الآلام، من الممكن تحمل البشاعة والقسوة والخراب ما دامت هناك لؤلؤة تنتظر في صدفة الوعد.. أحيانا تكون المرأة اشد قساوة من الحروب.
واحدة من خطايا الحب يا يسار انه يجعل السماء زرقاء على الدوام، يجعل الجدب اخضر والمرء يجعله من فرط التوهج كائنا متساميا لا مرئيا شفافا كطيف، قد يبدو ذلك مقبولا الى حد بعيد ولكن ما يترتب عليه من تبعات ان حدث ادنى اختلال سيكون اقسى وأمر بكثير..) ص111.
فالنص يشتبك ومتلقيه وجدانيا عبر اسلوب المشهد الذي ينتزع اللحظة ويسجلها بمنظور سردي ذاتي وموضوعي بتناول غريزة الحب والتغلغل في اللاشعور من خلال استقراء العواطف الانسانية والانجذاب صوب الآخر ورصد التواصل الوجداني، فضلا عن ادانته للواقع الاجتماعي والسياسي وادانة الحروب، يتجاوز البناء الذي يهتم بالحادثة دون الاهتمام بالبعد الاجتماعي ومحاولة مواكبة الحدث والصراع والحث على تجاوزه، فيبرز الانموذج الشخصاني المنبثق من واقع التشظي كوحدة اساسية قائمة بذاتها…
(ردت على امي بأسى واضح ثم مالت وألقت على وجهي نظرة شابها الشعور بالالم المغلف بالاعتذار وهي تعالج سحاب حقيبتها الكتانية ..الخضراء المخططة حوافها باللون الأسود، تخرج مغلفا فضي اللون توسطت غلافه بقرة حمراء منتصبة على قائمتيها الخلفيتين، نافخة صدرها للأمام، رافعة اقراص الحديد بقائمتيها الاماميتين كما لو كانت رباعة اثقال من الوزن الثقيل..فيما ذيلها خط في السماء الرصاصية للمغلف عبارة(خال من الدهون، خال من الكوستيرول).
ها هي وسط نظرات امي المتابعة لادق حركاتها تسكب الباودر الاصفر للكيس البقري في ماء ساخن، فتطفو قطع المستحلب الصغيرة..الحمراء والصفراء والخضراء على السطح، تطلب مع طبقها الاوربي المزيد من الشاي، تصر على تناوله(بالاستكان)..اذ لا يكون الشاي شايا ما لم يكن بالاستكان.
خالة منذ متى بدأتم تشربون بالأقداح.
هزجت ضاحكة وهي تلعق بطرف لسانها مستحلبها الزعفراني الثخين (من اجونا المصريين يا بنتي)، ردت الام بتلقائيتها التي لم تتخل عنها في يوم من الايام..(ص7 ـ ص8..
فالسارد ينتزع مشاهده من واقعه ويضفي عليها من احاسيسه وانفعالاته مع شحنها بالرؤى والعواطف الإنسانية، لذا تميزت بأبعادها الجمالية في ضوء تشكيل التجربة …كونه لا يقف متأملا ما يحيط به وانما يتفاعل معه، مع حرصه على تأطير اللحظة التي يتحدث عنها من خلال أزمتها وتوترها النفسي بدقة ووضوح، اضافة الى اضفائه شيئا من الشفافية للتخفيف من ثقل الواقع وتأزمه، فضلا عن انه يتناول الهم الاجتماعي كمحرك اساس عبر واقعية تسجيلية ممتلئة بإرثها الفاعل في تحريك الوجود الاجتماعي وصراعاته.
(اركض، اركض، كان الاغواء يأتيني على هيئة صوت ما ينفك يصرخ بي اركض، القرى ليست بعيدة، انها تقترب منك، الدخان ليس دخان القرى الوادع الجميل، دخان الحرب الثقيل يصعد للسماء ولكن ليس قبل ان يتخذ اشكالا غاية في الغرابة، انها السخرية بعينها، انه الجنون، الدخان الاسود الكريه يسخر، يقهقه مستهزئا وهو يرتفع الى فوق، ولكن لا.. انه يرسم امامي بابا انه باب الخلاص ليس بعيدا..على ارتفاع خفيض لا يفصل بيني وبينه غير بضع خطوات..ليس علي سوى استثمار الفرصة قبل ان تضيع، قفزة اخيرة وستحلق خارج كل هذا العبث واللامعقول..وقفزت..قفزت فعلا يا يسار ولكن لأسقط ممرغا في التراب شاعرا بلسع الجمر في قدمي اليمنى يمنعني من مواصلة الجري ويقعدني كما لو كنت جوادا حش من ساقيه فكبا على الارض مهزوما ولم يعد امامه بعد ان صهل بكبرياء لعدة دقائق غير ان يلوي رقبته ويغمى عليه..
اصمت قليلا ثم اكور غضب الذكرى المؤلمة البعيدة لأقول بصوت خفيض، يسار انت وكل القادمين من الشمال هذه الايام مزينين لنا طريق الخلاص من انفسنا التي شوهتها الحروب والحصارات والفاقة والعوز والامراض، او تحسبون انفسكم الوحيدين الذين قست عليكم الايام…) ص120 ـ ص121.
فالنص ينفلت من منطقة الظل ليعلن حضوره عبر الحاضر الراهن والحاضر الغائب والحاضر الذاكرة والحاضر الهاجس، اذ الحاضر(زمن متداخل تصوغه الاحداث)على حد تعبير افلاطون..اذ انه يتناول واقعا مأزوما تشعر به الذات الانسانية باغترابها المجتمعي والمكاني..لذا فهو يعتمد تيمات متداخلة كتيمة الزمن الذي يمضي تعاقبيا وتراجعيا مع اعطاء الشخصية دورا مركزيا..كونها مكونا اساسيا من المكونات الفنية وعنصرا فاعلا في تطور الحكي الذي ينضوي تحت ظلال عنصرين متداخلين هما: الحكائية والخطابية..بمكوناتهما(الافعال والوقائع والشخصيات والفضاء الزمكاني.. وانسنة الاشياء..).. اضافة الى انه يحمل بين طياته اكثر من حكاية لحظوية هاربة بتفاصيلها الباعثة على القلق بحكم حضور اشتغالات المنتج وتعدد مستويات السرد داخل النص..كالمستوى الموضوعي والتخييلي الحلمي الذي يجمع ما بين الوظيفة السايكولوجية والفكرية عبر لغة تجترح صورا سوسيولوجية واقعية بوعي الكتابة وانثيالاتها..
(منفانا يا يسار كان باهظا في كل المقاييس دفعت ثمنه سنين من التشظي والتوحد والكوابيس والرؤى المفزعة التي لم تكن تفارقني ليل نهار..ذلك انني اصبحت آوي الى فراشي كل ليل..افكر بيأس مطبق في تاريخ كتب على جبين احفاد طفلة ربعة الجسم بجدائل عكشة اخرجتها امها من لعبة الحجنجلي بجنجلي..طفلة اسطورية ببطن كبير مندلقة ناحية الشرق وعجيزة ضامرة مكعبة تمسح بها ناحية الغرب..طفلة لم تفطم بعد..ما زالت رائحة الحليب في فمها واوساخ التراب تحت اطراف اظافرها..ولكنها هكذا شاءت لها الاقدار ان تكون ذات حوض انثوي هائل متوج برحمين خرافيين ثنائيي القرون..نهرين هائلين..حبلين سريين يمتدان كخطين متعرجين لا يلتقيان الا في نقطة ضامرة في اقصى الجنوب عند شجرة الخطيئة الاولى التي كلفت البشرية كثيرا من التوقفات والتراجعات..نهرين تجري فيهما تحت الدخان المضبب لحرائق التاريخ دماء هادرة لا تكف لحظة واحدة عن الاصطخاب والعويل..) ص122..
فالمنتج(السارد) (يعالج الحياة التي تبقى سرا) على حد تعبير فرانك اوكونور.. فيصور الصراع الانساني والمكاني ـ متمثل بالعراق وجودا جغرافيا بكل مكوناته ـ بالفاظ نابضة بالاحساس الوجداني مع توهج وصفي متغلغل داخل دائرة(النفسي والاجتماعي والجغرافي..)باستثمار بنية سردية تنزاح عن مسارات السرد الخطي من اجل نص ينبثق من عمق الواقع المأزوم فيكشف عن رؤية السارد الاجتماعية التي تتمحور على مستويين مترابطين:اولهما المستوى الحكائي وثانيهما المستوى الحسي الشعبي..وهو يكشف عن بؤس الواقع باستخدام اسلوب التقطيع المشهدي داخل النص لخلق جو غرائبي حكائي يشكل مجموعة من التداعيات التي تتوظف بقصدية تعطي بعض التفسيرات المتسلطة على ذهن السارد..مع اهتمام برسم الشخصية من الداخل للكشف عن البعد النفسي..هذا يعني انه يمازج بين نسقين من السرد:الواقعي الذي يذوب داخل النسق التخييلي) وهو يتركز حول هاجسه الانساني المنبثق من واقع متجسد في الحياة اليومية.. فضلا عن ترجمة الاحاسيس والانفعالات الداخلية بابداع رؤيوي عميق بتوظيفه تقنيات فنية محركة للنص كالتنقيط والمنولوج والاستباق والاسترجاع..
(في السنة الاولى من الحرب كنت أتحين أدنى فرصة تكون فيها أفعى الموت نائمة..أرتقي أول رابية أصادفها..ارفع كفي الى السماء..ابتهل بقلب ما زال فيه خيط من حب يشده الى الحياة..
هذيان متفائل..(الهي الرحيم اطفىء النار..ربي القادر على كل شيء لايرضيك هذا الضياع..خلقتنا لنعمر الارض فانقذنا من هول الاحتراق والفناء..)..
ولم اك اجد غير صمت مطبق يلف السماء ولكنني أعاود المناجاة بشكل اشد حميمية ورجاء وما يلبث ان ياتي الرد سريعاعلى هيئة قذائف ثقيلة تنهمر هنا وهناك حول ملجئي فأهرب منها ومن شظاياها وأختبىء كجرذ مهزوم في خندق يشبه حفيرة قبر) ص94..
فالنص يمتلك قدرة استعادة الاحداث المضمرة التي اختزنت في الذاكرة حتى صارت مصدرا لانتاج سردا مشحونا بالصور والمواقف التي تمازج بين ما هو ذاتي وما هو موضوعي عبر واقعية الحدث.. فضلا عن اعتماده النص الدعائي الذي هو شكل من اشكال الاسقاط النفسي..وتصوير الهواجس الداخلية للشخصية..مع ارتكاز على راو عليم يبحث في الامكنة بلغة بعيدة عن الاقتحام عبر شخوصه النابضة بالحياة لانها تحمل موقفا ورؤية..
وبذلك قدم السارد نصا سرديا قائما على رؤيتين:اولهما الرؤية الاجتماعية.. وثانيهما الرؤية الانسانية من خلال التركيز على الحدث والمؤشرات الزمنية والافضية بشقيها(المغلقة والمفتوحة) والشخوص وفعلها وتفاعلها دراميا مع الاهتمام بالمشهد والمنظور السردي الذي يكشف عن ان السارد هو الذات والموضوع وقوى النفس هي الخالقة لمضامينه الموغلة في العمق الانساني واستحضار الحقيقة ذاتها..