بمناسبة الهرجة التي تغولت بعد التناول غير الموفق للنائبة هيفاء الامين لموضوعة “التخلف” وما وصلت اليه حفرياتها ومعطياتها بين حال الجنوب العراقي مقارنة بالمجتمع اللبناني والوضع في اقليم كوردستان، وتحول ذلك الحدث العابر الى ما يشبه قميص عثمان لدى الجيل الجديد من “المحتسبين ” داخل البرلمان وخارجه ومارافق ذلك من حملة سافرة ومسعورة من كل أنواع الذباب والصراصير الالكترونية، لشيطنة كل ما يمت بصلة للمشاريع المارقة التي يخشى من ولادتها مستقبلاً؛ أي قوى الحداثة والعقلانية والتعددية والحريات؛ يدفعنا كل ذلك لمراجعة معنى هذا العنوان “التخلف” وحقيقة تواجده على تضاريسنا الممتدة من الفاو لزاخو. في مقال سابق تطرقنا الى الامية ومعناها في عصرنا الحالي؛ حيث لم تعد محصورة في انعدام القدرة على القراءة والكتابة، بل في “عدم القدرة على الفهم”، حيث يشمل هذا المعنى الجديد المتناغم وحاجات عصرنا المتعاظمة، طيفاً واسعاً ومن شتى المستويات والهلوسات والعناوين. القدرة على فهم لأنفسنا أولاً “اعرف نفسك” وما يدور حولنا من حاجات فعلية وتحولات هائلة، ومنه يمكن التعرف على شبكات التخلف الاخطبوطية التي تبسط هيمنتها لا على الجنوب والاقليم ولبنان وبغداد وحسب بل الى القوى التي تدعي التقدمية والليبرالية والحداثة واليسار، بما فيهم الحزب الذي تنتمي اليه السيدة هيفاء الامين، حيث ما زالت الزعامات والملاكات المهيمنة عليه عاجزة عن فهم ما عصف بنا طوال أكثر من نصف قرن من الكوارث والاهوال.
ان مرور أكثر من 16 عاماً على زوال النظام التوليتاري، وما نضح عن ذلك من احداث ومعطيات وفشل على الاصعدة المادية والقيمية؛ تؤكد وبما لا يقبل الشك قوة وسطوة التخلف على شتى تفاصيل حياة ما تبقى من مشروع الدولة والمجتمع الذي اغترب عن كل ما له صلة بالاصلاح والتنمية والتحديث. كما ان عجز العراقيين ومن شتى الرطانات والهلوسات والازياء، عن تقديم او الشروع بتأسيس بدائل حضارية (سياسية وفكرية) تنتشلهم من محنتهم هذه، يؤكد حجم وعمق الخراب الذي عصف بما تبقى لهم من عقول وارادة حرة وهمم. لن نكشف سراً عندما نقول ان مقاليد امور البلد هي اليوم بيد طبقة سياسية وادارية ينطبق عليها وصف (اتباع الاتباع) ولا يشذ عن ذلك ما تبقى من حطام احزاب المدنية واليسار وغير ذلك من العناوين التي لم يبقى لنا سوى الفاظها كما كتب ذات غروب معروف الرصافي.
من دون ولادة قوى جديدة تمتلك ما يكفي من الشجاعة والوعي لتقول لهؤلاء المتخلفين (افرادا وجماعات) بانهم يقفون خلف كل هذا الاصرار على اعادة تدوير الجهل واللصوصية والشعوذة والتخلف؛ لا يمكن انتظار اية خطوة جادة صوب الاصلاح والتنمية والتغيير. من يتصدر المشهد الغرائبي الراهن يلقون بكل ثقلهم وترسانات “حيلهم الشرعية” وغير ذلك من ارث الوصاية على عيال الله، كي تبقى مرحلة ما يفترض انها وجدت لـ “العدالة الانتقالية” شاحبة وفاقدة لهويتها وغاياتها البعيدة عن مستنقعات التخلف والركود. كان يمكن لمثل هذه الادعاءات والشماعات والمقذوفات التي يستعين بها البعض لتسقيط والغاء الآخر المختلف وشيطنته؛ ان تتحول الى مهزلة ونكتة قبل أكثر من نصف قرن، لكنها اليوم تجد سوقاً ورواجا وسط حشود مجتمعات استرد فيها شيوخ القبائل والطوائف وكتل “الاوصياء والاتباع” مكانتهم على سنام “التغيير”.
جمال جصاني