بصدد “النظرية النقدية”

يستعمل مصطلح النظرية النقدية في العلوم الاجتماعية ليشير الى نظريتين مختلفتين من حيث النشأة والتاريخ.
من حيث التاريخ فان النظرية النقدية نشأت او انبثقت من النظرية الاجتماعية اما النشأة فانبثقت من النقد الادبي.
التطورات التي طرأت على مناهج العلوم الاجتماعية والعلوم الإنسانية استطاعت ان تزيح بعض الفوارق والحواجز ما بين النظريتين، وأصبح هناك تداخل بين النقد الادبي الذي يدرس بنية النص وبين الدراسات التي تتعلق بالمجتمعات البشرية والأنظمة التي تسود فيها.
وبناء على ما تقدم فان مصطلح النظرية النقدية بات شائعا جدا، إضافة لكونه مصطلحا واسعا يغطي مجالا واسعة من النظريات العلمية التي تتناول منهجية دراسة العلاقات بين المكونات سواء كانت مكونات أدبية نصية أم مكونات اجتماعية أنثربولوجية وهي غالبا ما تندرج ضمن نظريات ما بعد الحداثة.
رسم آلن هاو في كتابه النظرية النقدية الخطوط العريضة لما بذله هور كهايمر من جهود أولى بوضع نظرية ديالكتيكية تقف إزاء نظرة سلفه غرونتبرغ الوضعية “الاستقرائية”، غير ان النظرة الديالكتيكية التي قدمتها النظرية النقدية لم تقتصر على الماركسية الوضعية حسب، بل تعداها أيضا الى وجودية تلك الفترة.
ويستكشف هاو في فصل آخر الطريقة التي سعى من خلالها يورغن هايرماز منذ أواسط ستينيات القرن العشرين الى إعادة بناء النظرية النقدية في اتجاهات تتغلب على التشاؤم والتناقض في اعمال اسلافه.
يذكر هاو انه في فصول الكتاب أراد ان يكشف للقارئ أوجه النظرية النقدية المختلفة، مشيرا الى طبيعتها المبرقشة متعددة الألوان، وتطورها التاريخي، غير ان اهم ما آمله ان أكون قد أشرت إليه هو صلتها بالراهن.

تأليف: آلن هاو
ترجمة: ثائر ديب

الحلقة 9

هابرماز ضدّ ما بعد الحداثة:

في حين يقف تقويم الجيل الأول من النظرية النقدية للعالم المعاصر موقفاً معارضاً إلى هذا الحد أو ذاك لموقف ما بعد الحداثيين، فإنَّ نقد هابرماز يتّجه مباشرة إلى ما يعتبره نوعاً من “النزعة المحافظ الجديدة” لدى هؤلاء. وهو في مقالته “الحداثة: مشروع لم يكتمل” (دنتريفيز وبن حبيب 1996]1981[)، وفي كتابه خطاب الحداثة الفلسفي (1987b)، يلقي بشبكته الواسعة والدقيقة لكي يحدد خطوط التصدع الفكرية التي أنتجت النظرة ما بعد الحداثية إلى الأشياء.
ويلاحظ هابرماز (1996: 39-40) أنّ فكرة “الحديث” ليست بالفكرة حديثة العهد، فقد استخدمت في وضعيات تاريخية متعددة لتفصل بين إدعاءات حقبة ما عن نفسها وبين إدعاءات الحقب التي سبقتها؛ ومفاد ذلك أنّ على المرء أن يشتبه بأولئك الذين يدّعون مثل هذه الصفة بصورة غير نقدية. أما الرغبة الراهنة (الحداثية) في أن تنضو الماضي عنها وتطرحه، وأنّ “تفجر متصل التاريخ” فلها أصولها التاريخية التي تتوضع على وجه التحديد في الميدان الثقافي الخاص بالوعي الجمالي، وليس في أي نطاق آخر. ويكمن جوهر الوعي الجمالي الحديث في القيمة التي يسبغها على “العابر، واللحظي، والإنتقالي”، كما لو أنه تواق إلى “حاضر نقي” دائم. فالطليعية في الفن الحديث، سواء كانت سريالية أم دادائية، تزدري ما جرى من قبل، وتتمرد ذلك التمرد الفوضوي على معايير التراث والتقليد، مبتهجة بما تقدر أن تجترحه من خرق وإنتهاك في الوقت الذي تفرّ من أسئلة “الخير الأخلاقي والنفع العملي”. وكلما كان خرقها أكبر، وانتهاكها أوسع، أعتبرت ذاتها أشدّ نجاحاً وأكثر نجاعةً.
ولم تأتِ ستينيات القرن العشرين حتى كانت الطليعة في الفن قد تقدمت في العمر، وغدت متعبة وضجرة من إخفاقها في تغيير الأمور، بحيث رحنا اليوم نتحدث عن الفن ما بعد الطليعي. ويتساءل هابرماز إذا كان ذلك يبشر بتحول واسع إلى ما بعد الحداثة. فمن زاوية النظرية الإجتماعية، هذا ما يراه دانييل بل في كتابه التناقضات الثقافية في الرأسمالية (1979)، فهو يشير إلى إنفصام بين متطلبات المجتمع الحديث والإمكانات المتعية التي تعد بها ثقافته ورفاهيته. فالنظامان الحديثان الإقتصادي والإداري يتطلبان فرداً منضبطاً يتمسك بأخلاقيات العمل البروتستانية وينحاز، إذاً، إلى شكل عقلاني وهادف عموماً من أشكال الحياة. غير أن مفعول الفن الطليعي يتمثل في أن يعزز في عالم الحياة مبدأ “تحقق الذات غير المحدود، والمطالبة بتجربة ذاتية أصيلة، ونزعة وضعية حيال الحساسية مفرطة التنبيه، وإطلاق الدوافع المُتعيَّة”. وكل ذلك يتعارض مع النظرة الأخلاقية التي يحتاجها النظامان الإقتصادي والإداري (هابرماز 42:1996). وعند دانييل بل، بوصفه واحداً من المحافظين الجدد فإنّ الخلل يكمن في ثقافة طليعية مناوئة وغير إبداعية تقوض معايير الحياة اليومية بوعود مغرية لكنها كاذبة. أما الحل الذي يقدمه فهو تجديد المعايير ذلك التجديد الذي يتكفل بكبح الليبرتارية وتعزيز قيمة الإنضباط الذاتي وأخلاق العمل.
ويرى هابرماز أنّ الحل الذي يقدّمه بل المحافظ ليس حلاً. فلا مجال لإعادة عقارب الساعة إلى الوراء وإستحضار معايير السلطة التقليدية من لامكان. وما يغفله بل وسواه هو واقعة أن القيم الثقافية الراهنة ترتبط بما جرى في المجتمع الواسع. وعلاوة على ذلك، فإن المجال الثقافي ذاته هو مجال متمايز؛ له تاريخه الداخلي الخاص. ولكي يوضح هابرماز هذا الأمر فإنه يلجأ إلى أعمال ماكس فيبر.
غالباً فكرة الحداثة الثقافية بتطور الفن الأوربي، إلا أنّ أعمال ماكس فيبر تبين أن من الممكن التوسع في توصيف الحداثة الثقافية من حيث هي سيرورة من التمايز، على النحو الذي يفرق بين اللحظة التي كانت فيها رؤية العالم الدينية أو الميتافيزيقية هي التي تربط الثقافة وتجمعها معاً وبين اللحظة الحالية التي انفصمت فيها الثقافة إلى ثلاثة مجالات للقيمة منفصلة نسبياً ولها طرائقها المختلفة في تبرير ذاتها. وهذه المجالات الثلاثة هي العلم، والأخلاق، والفن. فالعمل يُنتج “معرفة” تُبَّرر بوصفها “حقيقة”، و”الأخلاق” تتّصل بالعدالة وتشرعن ذاتها عبر أفكار “الصواب السّوي”، أما الفن فيتحقق من حيث “الأصالة” و”الجمال”.
ولقد طوّر كل مجال من هذه المجالات بروتوكولاته المؤسساتية الخاصة في الحكم على جدارة منتجاته؛ أي أنّ كلاً منها غدا نظاماً ثقافياً مستقلاً. ومن الواضح أيضاً أنّ هابرماز يعتمد هنا ضمناً على فكرته الخاصة ب”إدعاءات الشرعية” كيما يبيّن أنّ كلّ مجال من هذه المجالات يُطلق إدعاءه الخاص أنّه عقلاني، وذلك من خلال الإلحاح على ضروب معينة من إدعاءات الشرعية.
ولقد تمكّن كلّ مجال من هذه المجالات، عبلا إستقلاله ونظراً لتجرّده عن المجالين والآخرين؛ من أن يتكشّف عن بنى داخلية خاصة بمركب المعرفة لديه. غير أننا إذا ما نظرنا من زاوية أخرى، فسوف نجد أن لهذا الإستقلال جانبه الآخر. فالمعرفة الثقافية التي أنتجتها هذه المجالات المنفصلة وقام عليها خبراء متخصصون، عدت منقطعة عن عالم الحياة اليومية. ففي حين كانت الثقافة ذات مرّة معتمدة على عالم الحياة وتعكس ذلك العالم، نجد أنّها الآن تُهدد بإفقار هذا العالم إذ ترتبط به بعلاقة خارجية وحسب. فنحن نقبل، أو يكون علينا أن نقبل، في الغالب الأعمّ من الحالات، ما يقوله لنا الخبراء في العلم، والعدل، والفن. فلقد كانت النية الأصلية لدى مفكّري التنوير أن يطبقوا المعرفة المتحصّلة في مجالات مختلفة على عالم الممارسة الإجتماعية وأن يوفّروا لكل إمرئ عالماً أكثر عقلانية بكل المعاني. غير أنّ هنالك الآن، مع نهاية القرن العشرين وفي الضوء الذي يلقيه تاريخ هذا القرن ما يزيد على التشكك فيما إذا كانت سيرورات العقلنة قد حققن ذلك التقدم الذي وعدت به. والسؤال بالنسبة لهابرماز هو ما إذا كان علينا أن نطرح فكرة الحداثة وآمالها التنويرية، وأن نترك عالم الحياة يواصل مجراه دون أن يعكر صفوه أي شيء؟ وجوابه هو أنّ سيرورة العقلنة التي جرت في المجالات الثلاثة، على الرغم من كل إنقطاعها عن عالم الحياة وإخفاقها في إنجاز وعد “الحياة الحسنة”، لا ينبغي أن تُطرَح أو تُنبَذ. فبذرة التقدم قد نُثِرَت وما تحتاجه هو حراثتها وتعهّدها بالرعاية.
ويتحدث هابرماز عن “نفي زائف”، خاصّةً كما حاوله الفلاسفة ما بعد الحداثيين في المجال الجمالي. وهو يعني ب”النفي الزائف” محاولة تفجير وتخطي حدود مجالات المعرفة التي تشكل القافة، وإعادة توحيدها من عالم الحياة. والحال، أن قول هابرماز بإمكانية إعادة توحيد أوجه المجتمع المتخلّعة المنفصلة في شيء أشدّ تقدمية من الناحية التاريخية هو قول ينمّ على الأرضية المشتركة التي لا تزال هابرماز يتقاسمها مع الجيل الأول في النظرية النقدية، فهو معنّي بما دعاه (في غير مكان) سيرورة نزع التمايز، ووضع حد للقواعد التي تحدد ما يُعتبر معرفةً في المجالات المختلفة.
أما التفكير ما بعد الحداثي في ميدان الفنّ، على سبيل المثال، فيسعى لأن يبين أنّ ما من فارق فعلي بين الفن الرفيع والفن الوضيع: فمسلسل خفيف هو موضوع جدير بأن يلفت الإنتباه ما بعد البنيوي شأنه شأن مسرحية لشكسبير. فما يراه ما بعد الحداثيين هو أنّ قواعد التقويم نسبية إجتماعياً ولذلك ينبغي النظر إلى الحدود الجمالية التقليدية على أنذها حدود مصطنعة. لكن هابرماز يرى أنّ ترعرع القواعد التي تحكم تلك الحدود في المجتمعات الرأسمالية الحديثة وتعبيرها عن تاريخها الطبقي لا يفقدانها جدارتها. فالفنّ قادر على أن يكشف أوجهاً للعالم بتلك الطريقة التي لا يقوى عليها غير الفن. والنظرة ما بعد البنيوية تخفق في تبين ما يتمتع به العمل الفني (الجمالي) المستقل من خصائص متعالية، أي قدرته على تخطي سياق إنتاجه وتجاوزه، ذلك أنّ ما بعد البنيويين يختزلون العمل الفني إلى كونه مجرد نتاج لذلك السياق. ويرى هابرماز أنّ إنكار هذه الخاصية يعني رفض اللب العقلاني الذي بزغ عن طريق المجال الجمالي لنزعةٍ نسبيةٍ غير تقدمية وبلا هدف. فللفنّ، عند هابرماز شأنه شأن أدورنو منه قبله، مكون عقلاني وإن كان مختلفاً تماماً عن مكون المجالات الأخرى. ومحاولة السريالية أن تضع حداً لقواعد الفن التقليدي بجمعها صوراً غريبة أشبه بصور الحلم هي محاولة لا تقوى على ردم الهوة بين الفن والحياة، وكلّ ما تفلح فيه هو إنتاج المزيد من الفن العظيم، وما تطلقه من تحد جذري لا يفضي إلى إعادة توحيد الفنّ وعالم الحياة، بل يكتفي بتعزيز تلك المقولات التي أَمِلَت أن تتخطاها وتتعالى عليها، ومن هنا النفي الزائف.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة