ثوابت التغيير !

في السنوات الأولى من القرن العشرين قرر العلماء أن الزمن ليس عرضاً خارجياً زائداً، مثل غيره من الأعراض، بل هو جوهر أصيل داخل في المادة، غير مرتفع عنها. وتوجب عليهم أن يدعموا مقولتهم هذه بالبرهان الرياضي القاطع. غير أن أحداً من المؤرخين أو علماء الاجتماع لم يكن بحاجة لمثل هذا البرهان، لأن التغيير هو أحد «ثوابت» الحياة على ظهر هذا الكوكب. ولأن المجتمعات الإنسانية تسير باضطراد نحو التقدم. هذه المفارقة التي حاول الإنسان، منذ بداياته، أن يتجاهلها دون جدوى!
إن شكل الحياة لا يتطور دون وعي ثقافي عال. فالاثنان يسيران جنباً إلى جنب في مختلف المراحل ولا يفترقان أبداً. وفي العصور الطويلة الخانقة التي مرت على البلاد العربية، كانت الثقافة تعيش مرحلة جمود مريع. ولم تكن قادرة على تحقيق أي إنجاز مقنع. وكأن الزمن في تلك الحقبة قد توقف عن الدوران تماماً.
لطالما كان يشار في المناهج المدرسية إلى أن الثقافة هي التي صنعت النهضة، ووضعت أسسها في أوربا. وكانت أسماء فنانين بارزين مثل مايكل أنجلو ( 1492) ودافنشي ( 1519) ورفائيل (1521) توضع في المقدمة دائماً. لكن الحقيقة أن هناك تداخلاً ما سمح بهذا الافتراض. فقد كان هؤلاء علماء ومهندسين ومخترعين أيضاً، وقام بعضهم بنشاطات علمية مهمة. كما أن كبار العلماء في ذلك الوقت مثل كوبرنيكوس ( 1534) وغاليلو ( 1642) كانوا يشتغلون بالفلسفة أيضاً. وليس ذلك بالأمر الغريب في وقت لم يكن مفهوم الثقافة قد أخذ صيغته النهائية بعد.
في البلاد العربية كان القرن العشرون مختلفاً تماماً. إذ تميز بظهور نخبة مهمة ماتزال بصماتها حاضرة حتى هذه اللحظة، في ذات الوقت الذي بدأت التحولات الاجتماعية تأخذ مجراها في هذه البلاد. ولأول مرة ظهرت المدن الكبرى التي تضم في داخلها مختلف الأنشطة التجارية والحرفية، وأخذت تستقطب سكان الأطراف إليها. وكان لا بد أن ترافق هذه الثورة الاجتماعية موجة جديدة من الأدباء والفنانين والإعلاميين والأكاديميين وأهل الرأي. وأن يكون لها دور عظيم في إضفاء معالم الحداثة على التجمعات السكنية المكتظة.
لقد عجز القرن الجديد أن يأتي بطبقة مماثلة بعد تراجع الأنشطة التنموية إلى أدنى مستوياتها في المنطقة، وعدم ظهور دلائل على انفراج ملموس فيها. فكل شئ في ما يبدو سائر إلى الانحدار، وكل ما كان قائماً آيل للتفكك. وليس من المتوقع ظهور ثقافة حقيقية جديدة إذا بقيت الحال على ما هي عليه دون تعديل. ويبقى الأمل معقوداً على الأعوام القادمة في الإتيان بالمعجزة التي طالما انتظرها الناس، منذ مئات السنين. وباتوا غير قادرين على تخيل حياتهم القادمة دونها. إنهم بانتظار التغيير الذي سينقذهم من الذوبان، ويكفل لهم البقاء كمجموعة ثقافية ذات ملامح مميزة، إلى ما شاء الله من الأزمان.

محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة