( للشمس وجه آخر) بتناغم الرؤى

علوان السلمان

العملية الابداعية.. رسالة كونية قائمة على اللغة وسيلة..والامتاع الجمالي والمنفعة الفكرية التي تشكل جوهر الانسان ووعيه انتفاعا..
والنص السردي..البنية الدلالية التي تنتجها ذات مغامرة ضمن اطار بنيات ثقافية واجتماعية..كونه فعل ثقافي مؤثر باقتناص وتسجيل الاحداث الجزئية التي تستفز المستهلك(المتلقي) وتجره للتفاعل مع خطاب الواقع لخلق صورة من صور الوعي الاجتماعي الذي هو انعكاس للوجود الاجتماعي..اذ تتحول من خلاله الذات المستهلكة الى فعالية مشحونة بالحركة والتساؤل..لانه وثيقة تاريخية تتكىء عليها وجهات النظر الجمالية لمتغيرات الواقع من خلال تفاعله مع الاحداث وتوتراتها وصراع الموجودات بتناقضاتها مع رصده للتحولات الحياتية بتركيزه على الهم المجتمعي كمحرك مؤثر داخل بنية السرد..
وباستدعاء النص السردي(للشمس وجه آخر) المتشكل من تسعة عشر مشهدا رقميا نسجت عوالمها ذاكرة مبدعها تحسين علي كريدي واسهمت دار امل في نشرها وانتشارها/2018..كونها(حكاية وطن يضيق باهله ويغدو مجرد قبر ومنفى لارواحهم..)كما يقول السارد..من خلال انشطار الحكي الى عالمين متداخلين:اولهما خارجي انحصر في(المرئيات والمسموعات) وثانيهما داخلي تمثل في( البوح والتداعي والاستذكار والاسترجاع..)
( غرق وسام في التفكير متسائلا..ان كان حقا في ورطة أم لا؟ فتعليقات عباس(السائق) الذي خرج لتوه من غرفة قاضي التحقيق..وتقاطيع وجهه القاسية المتشنجة..ونظراته الواجمة..كلها تبعث برسائل متورمة بالتشاؤم ولا تبشر بخير..
ضرب عباس على فخذه براحة يده وقال بحرقة:
ـ لِمَ اقحمت نفسي في هذه الورطة؟
ـ لكننا لم نقدم على فعل اي شيء خاطىء..
فرد عليه عباس بصوته الصديء الذي انساب من حنجرة نخرها الافراط بالتدخين
ـ ليس المهم ما تدعيه انت..بل المهم هو ان يسلم القاضي ما تدعيه..
بيد ان ما يعزز من هواجس وسام وشكوكه..هو احتجازهما في مركز الشرطة منذ ليلة امس..ولكن من يدري؟ لربما هكذا هي الاجراءات هنا..
كانت الاحداث قد تواردت عليه بسرعة بالغة..فقبل اسبوع كان يعيش في مكان مختلف تماما..فرنسا التي امضى فيها نصف حياته تقريبا والتي عاد منها بعد الحاح امه..) /ص11..
فالسارد يقتنص اللحظة باستخدام اسلوب التصوير السريع لتحقيق مشهدية مكتنزة بدراميتها الحركية التي تنفذ الى اعماق اجتماعية ونفسية للكشف عن دواخل الشخصية بما امتلكت من ايحاء جملي..فيظهر الانموذج الانساني كوحدة اساسية منبثق من واقع متشظي..لخلق نص ينطلق من لحظة وعي يحققها المنتج(السارد)فيتجاوز الواقع الذي سلبت فيه ارادة الانسان وما افرزه من تداعيات وصراعات اجتماعية معبرة عن رؤية انسانية تقوم على التركيز الدلالي والالفاظ الموحية التي تثير التأويلات بتجاوزها المعنى الاحادي..ابتداء من العنوان العلامة السيميائية الدالة على حركية الذات المأزومة والواقع(الشمس تبدو لنا مختلفة..فقط لاننا سمحنا لقوى الظلام بغزو افكارنا ورجاحة عقولنا ومصادرة اشراقة قلوبنا..)..اضافة الى انه يشكل نصا موازيا وعتبة كاشفة عن هويته المحققة لوظيفتها السايكولوجية باستفزاز المستهلك واثارة انتباهه..كونه يحيل الى محمولات فكرية ومرجعية اجتماعية..ولا يفوتنا ان نذكر ان النص يبدأ من مستوى الوعي ليكشف عن الوهم الذي يتحرك والواقع فيحقق حضوره من زوايا متعددة تؤلف مشاهدا مؤنسنة موظفة بقصدية تضفي بعض التفسيرات المتسلطة على ذهن المستهلك..حتى ان النص السردي عند المنتج(السارد) يصبح قطعة من حياة متحركة..اضافة الى اهتمام النص بالوصف وتحديد العلاقات الاجتماعية والصراع القائم داخل المنظومة المجتمعية بلغة حوارية تعتمد التبادل والتعاقب بين الشخوص للكشف عن دخيلتها ومدى تفاعلها والخارج..
(بين عبدالله وباسم نشأ نوع من التقارب غير البريء..حواراتهما المنفردة التي هي اقرب الى الهسيس وعيونهم اللاحظة بريبة لمن حولهم كانت تشي بأن ثمة شيء ما يحاك..لم يلاحظ ذلك الشيء احد من المحيطين بهما سوى وسام..وبدورهما ادركا بأن وساما فطن لامرهما..فحسما قرارهما بالبوح له عن خطتهما للهروب من السجن..والتي كانا يعدان لها طيلة الفترة الماضية ليقينهما بأنه يتقبل الفكرة بعد ان اوصدت امامه فرص الخروج من السجن..فهو قاب قوسين او ادنى من حبل المشنقة الذي لايبعده عنه لغاية الآن سوى تدخل والده لدى معارفه من المسؤولين الذين سيضحون به حتما ما ان يشتد الضغط عليهم..ففي عيد الاضحى لابد من اضحية..
كان عبدالله وباسم يجلسان على مسافة شبر اواثنين منه..فدعاه عبدالله قائلا: ادن منا قليلا..
فاقترب منهما حتى التصقت رؤوسهم بعضها ببعض..)ص154 ـ ص155
فالسارد يكشف عن ادق الدلالات النفسية والعلاقات الاجتماعية ويمنحها لمستهلها بنسج فني مستلهما الواقع والاحداث التي يقتنصها فيستنطقها ويستلها من دائرة الحدث الطبيعية الى عوالم شمولية باعتماد التكنيك الفني المحرك للذاكرة(زمانيا ومكانيا وحركة شخوص وحوار بشقيه(الذاتي والموضوعي..).. ليخلق نصا سيريا متمثلا بشخصية (وسام) الذي شكل بؤرته الفاعلة والمتفاعلة مع (نيكول) عنصر التشويق والجذب في الخارج(فرنسا) من جهة والشخوص والاحداث التي شكل معتقل التسفيرات انطلاقها المكاني الجزئي الذي يشغله وجود بشري مغترب..فضلا عن ان السرد يعتمد صناعة الافكار بوجوه متعددة(تأملية وواقعية وعجائبية..)تجلت في التخيلات السردية باتخاذ الرؤى سبيلا للبناء الفني للنص الذي يتقاسمه الواقع المتسم بعمقه الممزوج بالخيال المرمز والذاكرة المثقوبة..لانتاج جدلية الوجود وبلورة الفكرة والاستغراق في عوالمها..حتى تندمج بوجدان المنتج وتحضر في مشاهده بلغة تمتلك مؤثرها الجمالي وقدرتها التواصلية المانحة للمشهد المكتنز بمضامينه النفسية والاجتماعية التي تتفاعل ومنظومة القيم الجمالية..
وبذلك قدم السارد نصا يتسم برؤية ابداعية متناغمة الرؤى..متفاعلة وانساقها المكتظة بالحيوية..وهي تمازج الحلم بالخيال في سياق حسي متواصل مع الحياة بكل موجوداتها بذهنية متحفزة خلاصتها الفعل الذي عكس مهارته في توليف الاجتماعي مع الحسي الغرائبي وربطها بالحياة اليومية..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة