فوهة الخلاص*

سلام إبراهيم

تتآكل قسماته من حوافها. تنث ترابها القديم. تتحلل عائدةً إلى عناصرها الأولى. يتطاير غبارها من ثقوب الآجر. يغيب في الظلال الوارفة، في أغوارها. يطفو في مخاريط الضوء المتشظي بأرجاء الباحة، في الأركان والسقوف والحيطان. يلهو متراقصاً في الزحمة المتلاطمة، في فيض موج الضوء العاري، متفادياً، مصطدماً، معانقاً غبار ملايين الذوات المفتتة منذ الأزل. كائنات تتفتت إلى عناصرها الأولى، حية في مهرجان وجودها الأزلي. يتتبع بعينيه الساهيتين بقايا قسماته بغبارها وهي تغادره، منفصلاً عن محنة وجوده في المكان، عن التفاصيل. يلتحم كيانه بذرات الغبار.. ذرات الخلق، وأنفاس كائنات غير مرئية تلوذ أبداً في خواء الأمكنة القديمة، في الظلال المنسية، في البساتين، في بقع الضوء الضائعة وسط الظلال. يستيقظ من غفوته المتشربة بأرواح أولئك المجهولين القائمين في صمته. تنحدر ذراعه المغبرة هابطة على الفراش اللين المترب، تندس كفه تحت الوسادة لتحضن المقبض البارد. تهبط على نفسه السكينة كلما لامسه، سكينة تخالطها خشية من احتمالات جبنه لحظة المواجهة المتوقعة. كم تخيل في لياليه الطويلة مشهد العثور عليه، وكفه تلتف حول المقبض وأصابعه على الزناد.
ـ هل يجرؤ على تصويب الفوهة الحالكة إلى القلب، أو الصدغ؟.
ـ هل سيجرؤ على الضغط؟.
ـ هل لديه الشجاعة الكافية للإقدام على استقبال الطلقة المخلصة؟.
ما مقياس الشجاعة والجبن؟ وهو يجد نفسه في بعض المواضع شديد الجبن وفي مواضيع أخرى شجاعاً حد التهور!.
يتراخى مظاهراً الجدار، وهو يستعيد أشد لحظات جبنه وقعاً على نفسه، تلك التي وقعت له في نضجه. يتذكر كيف صفتهم الشرطة العسكرية في مساء مظلم وسط ساحة صغيرة محاطة بعربات قطار قديمة، أعدت كسجن مؤقت للجنود الهاربين والمخالفين. كانوا قد قبضوا عليه لتأخره عن موعد التحاقه بوحدته. في ربكة خطى الجنود المسرعين للانتظام بصفين. كان يحاول الوقوف في الصف الثاني الأشد عتمة من الصف الأول الواقع في مستطيل الضوء المتسرب من غرفة قلم الوحدة الخشبية. انضغط بين الأجساد المسرعة تحت ضربات هراوات الشرطة البلاستيكية المعبأة بالحصى، مما جعله يتذمر بصوت مسموع قائلاً:
ـ..»شني القضية»؟!.
قامت القيامة. وران صمت حجري على الهاربين المذعورين. وعريف الشرطة العسكرية يطالب من القائل التقدم خارج الصف:
ـ إذا كان إبن أمه وأبيه، فليخرج!.
التفتَ نحوه. كان يقف مباشرة أمامه، وكأنه يطلب منه الخروج لإنقاذ الكل من عقاب جماعي كان يتوعد به العريف الشاخص في المكان الأعتم. كان يختض حابساً أنفاسه، متخيلاً الضرب المبرح الذي سينهال عليه في حالة خروجه، سيكون قاسياً مضاعفاً لتذمره ولشجاعة إقدامه على الخروج. لولا الظلام لفضحه ارتجاف جسـده. حركة المسجون الذي إلتفت جلبت إليه العيون، مما جعلهم يسحبونه إلى وسطهم، وينهالون عليه ضرباً بالهراوات، وركلاً بالأقدام وهو يقسم بأنه لم يقل شيئاً، وكان قوياً وشجاعاً، إذ لم يشِ به، ولم تصدر عنه صرخة ألمٍ برغم قسوة الرفس والضرب الذي جعله يتكور تحتهم واضعاً يديه حول رأسه المضموم إلى حضنه. كان يتمزق من هول الضربات التي من المفترض أن تكون حصته.. من مبلغ جبنه الذي يكتشف فداحته تلك اللحظة.. من شعورٍ بالخزي والعار لن يفارقه كل العمر، والجندي المدمي يعود إلى الصف، بعد أن كَلّتْ أيديهم وألسنتهم من بذيء الكلام والضرب. في طريقهم نحو عربات الحديد القديمة، يقترب منه يهمس في أذنه:
ـ «بشرفي أنت ناقص»!.
في الظلام الدامس، في لحمة الأجساد المكدسة في ضيق العربة، في بردها الصقيعي غط بنضحه، بعاره «وأنت ناقص» ستبقى ترن في نفسه كل العمر. مصحوبة بسؤال:
ـ هل أنا جبان إلى هذا الحد؟!.
سيحتقر نفسه. سيخجل وهو في الذروة بفراش الزوجية. سيقضي ليالي الإجازة الشهرية في السكر والنحيب. سيخفي جرح كرامته عميقاً. فلمن يبوح بهذا السر؟ وماذا يقول؟!. سيجد نفسه ليس جديراً بحبها المجنون، غير جديرٍ بأبوته. سيختلف إيقاع علاقته بالآخرين. سيصبح وجلاً، غير واثق من كلامه، سيطيل من الانفراد بنفسه. سيقلب الأمر طويلاً وعميقاً باحثاً عن سر هذا الجبن وجذوره.
أتكون تلك التجربة من غَيّرَ أحواله؟. أيكون ذلك الرعب المادي المحسوس في الكتلتين البشريتين المجاورتين لموقعه في زنزانة ضيقة في الأمن العام، من زرع بنفسه الجبن ورسَّخه إلى هذا الحد المخزي؟. كتلة مشوهة القسمات، عارية مسلوخة الجلد تهذي في حملقتها الخاوية ببقعة جدار السماء الأزرق خلف شبكة قضبان النافذة الصغيرة، سادرة في عالمها الجديد، تحاور أشباحها السابحة في فضائها الخالي من الألم. والكتلة الأخرى تلتفت نحوه مستنجدةً، صارخة:
ـ» يا بوية.. تخبل أخوي.. تخبل»!.
ثم انهال لطماً على قسماته المتورمة. وقتها لمس بعمق بشاعة الإنسان في قسوته. وبرغم ما ذاقه هو من صنوف التعذيب، لم ينس ذلك المشهد المصحوب بصراخ رعبٍ قادمٍ من الأنفاق البعيدة وزنازين البواطن الغامضة، فظل يرتعد كلما خطر في خياله المشهد ذاك. ظل يرتعد ويشحب كلما أقبل نحوه شرطي سري يعرفه في السوق، في المقهى، في الشارع، في مكان عمله. صار يرى في الوجوه المريشة أبواباً تفضي إلى جحيم أمكنة لا ترى إلا في كوابيس المذعورين. حرز كل ذلك الرعب في أعماقه الدفينة. وصار وجوده منذ إطلاق سراحه في مساء صيفي من مساءات بغداد مجرد ذات تقاوم رعبها المكين. ذات تحاول العودة إلى سويتها الإنسانية. لكن يبدو أن الفزع استحال إلى جبنٍ وإلا كيف يفسر صمته وهم يضربون إنساناً بريئاً بسببه ويظل ساكتاً؟
ـ «ناقص.. ناقص.. ناقص»، على قد كياني.
هل هربي من الجيش جبنٌ من الموت أو موقف أحاول به تقويم إرادتي المكسورة، وللتخلص من خزي موقف جبني ذاك؟!.
هل تسللي من الجبل جبن من مشاق الحياة هنالك أم شجاعة؟!.
هل كل ما يجري ما هو إلا محاولة لملأ خواء النفس، والتطهر من رجس مشاعر إثمٍ؟!.
هل سأجرؤ ولا أصاب بالجبن، وأضغط عند المواجهة على الزناد؟.
هل كل ما أقوم به هو مجرد اختبار إرادة؟!.
اختلط عليه كل شيء في هذه الزاوية المغبرة المظلمة، في هذا الصمت. أختلط وهو يجد نفسه راكباً هذه المغامرة الخطيرة التي لا تُعرف نتائجها، غير واثقٍ من شيء. لا يعرف ماذا يبغي. وحلم قربها أصبح نائياً، لا بل أشد نأياً مما كان عليه وهو بين رجال العصابات في الجبل. أصبح الأمر أكثر تعقيداً مما ظنَّ، فبدلاً من متعٍ كان يحلم بها هناك وجد نفسه في قيعان رعبٍ أحالت ليله ونهاره إلى كابوس متصلٍ، وخاطر الانقضاض عليه في أي لحظة يحوم كل الوقت، مصحوباً بشعورٍ بالعجز لم يختفِ إلا حينما جلبوه له. يتذكر كيف أخذته فرحة عارمة في الليلة الأولى التي استكان فيها المخلص تحت وسادته، المختصر رحلة أنفاق الجحيم المؤدية آخر الأمر إلى الفوهة المظلمة نفسها، الكامنة الآن بين ريش الوسادة وقطن الفراش. ظل يدس كفه في الظلمة الطاغية متلمساً برودة الحديد ونعومته، فتتغلغل في روحه السكينة، وتشعر أنامله بألفة ولذة وكأنها تمسد فخذ الحبيبة الأملس الطري. كم مرة حدق في الثقب الضيق الشديد الحلكة المؤدي إلى بيت النار؟!. كان يضع الفتحة بمواجهة مخروط الضوء الذي لا يضيء سوى مسافة قصيرة، فيقوم الظلام على حافة الضوء مثل جدار. كان يحدق شارداً، يفكر في الكون اللامتناهي، بأقماره وشموسه ونجومه السابحة في يم الظلام الأبدي الطاوي هذا الوجود الغامض. أليس الظلام هو الأصل، وما النور إلا لطخة منسية في غوره العظيم. ألا تبدو الشمس في يمه السرمدي كإصبع ضوء خافت، كاحتضار نور شمعة على وشك الانطفاء في ليل حالك لا قمر ولا نجوم فيه. ما عمر الكون، النجوم، الشموس، الأرض، البحر، وأي شساعة في ظلام هذا الوجود الغامض. وما تفاهة عمر الإنسان وتفاصيله، حروبه، أحقاده، آلمه، معاناته. ولماذا برغم إتساع هذا الكون يجد نفسه محشوراً في حلكة غرفة علية، يحملق في الفوهة وبئر ظلامها الناصع، وهي بدورها تحدق في الشحوب الذي غزا قسماته. شحوب من يطيل المكوث في الأمكنة المغلقة المظلمة الرطبة القديمة. تحدق الفوهة منتظرة ولوجهُ إلى باطنها الرحيم الخالي من الألم.
ـ تباً للإنسان!.
يتابع طرف سبابته اليمنى وهي تلج طرية في دائرة الزناد الضيقة. يبحر في استكانتها لصق نتوء الزناد، متخيلاً رجفتها قبيل الضغط، فيغور بالتجويف دافعاً الإبرة، فتنتأ واخزةً كعب الرصاصة التي تنطلق مثل برقٍ لتستقر في طراوة ودفء أحشاء الرأس ذاهبةً باضطرابه، وبالجسد إلى روح الغبار الساري في الظلال.
هل تجرئين يا أيتها السبابة على الضغط؟.
هل تكونين قارب نجاتي؟.
هل؟.
أو أنت يا سبابة ستخذلينني كما خذلتني الدنيا، وتركتني مذعوراً، مهجوراً، قانطاً في حجرة من العتمة والغبار، أزجي الوقت بالأحلام والمخاوف معذباً بالرعب الذي شوه ملامح عمتي الجميلة، وجعلها مطعونة محتقنة. تتحاشى التواجد معي في غرفة واحدة. وفي الأوقات القليلة التي أتمكن فيها من النزول إلى فسحة الدار تلزم الصمت وكأنها في حضرة كائن حجري. عدت لا أسمع صوتها الحبيب إلا في صباحات عطلتها المدرسية المشمسة، عندما تجلس إلى ماكينتها لتخيط للنساء أثواباً. كنت أتلصص عليها من الثقب وهي تأوي إلى فراشها البارد مبكرة. تلتحف بالغطاء، وتظل تحملق مشدوهة في ظلال المساء النامية في الزوايا ومداخل أبواب الغرف. أتأمل سكونها الطويل إلى أن يلاشي الليل الغرف والأبواب، والحيطان المنخورة وسريرها القديم والباحة بصبيب حلكته الباردة وكآبته الموحلة. تأخذني التباريح والوجد إلى حافة النحيب:
ـ لماذا يا عمة؟ أنتِ مثلي قانطةً وحيدة في هذه المساءات الحزينة. لماذا لا نطرد وحشتنا ولو إلى حين، بحديث ما، أي حديث يخلصنا من فداحة الصمت والرعب. ناديني يا عمة.. نادي ولو مرة واحدة ودعيني أنزل إلى جوارك. أتناول لقمةً معك. حدثيني عنك، عن أبي، عن حزنك الدامي، عن ابنك الغائب. نادي يا عمة.. أنتظر ذلك كل مساء، وسماع صوتك صار حلماً وقت الغسق الحزين، وقت تخافت ضجيج المدينة. ويموت حلمي على عتبة صمتك وأنت تلوكين خبزاً من دون غموس، ترتشفين شاي المساء الخفيف، ثم تنسلين إلى سريرك.. لماذا يا عمة.. يا عمة قد أقتل قريباً، وأنت تعرفين أنني انصعت إلى شرطك، فلم أدل زوجتي على مكاني. مثلي هذه اللحظة مثلك، أرمل، فاقد الزوجة والابن، مذعور مثل ذعرك.. لا أدري متى ينقضون عليّ، في مكمني هذا أو في أثناء خروجي الشحيح ليلاً لرؤية الأمكنة والشوارع ونوافذ بيوت الأحبة والأصدقاء. أنشج بصمت معاتباً قلباً كان يحنو عليَّ في طفولتي، ويضمني في حضنه الدافئ من قسوة أبي والناس، وكنت أشتكي إليه، وألوذ فيه أياماً وليالي.
تخفت المرايا. تشحب الأضواء. تهمد الكائنات الدقيقة وأرواح الظلال. يستلقي على الفراش. يتمدد في الحلكة عائداً إلى لعبة الإنصات وتخمين مواقع سقوط فتات الجص والآجر. سيفرزه الليل نحو بوابة كوابيسه. وأرق سهره القادم من أصوات بواطنه المبهمة. سيوتره صوت محرك سيارة يخفت، صفقة باب، خطى أقدام، سيستخرج المسدس قاطعاً أنفاسه، متردداً بين الانتظار لمعرفة جلية الأمر أو إزاحة زر الأمان ووضع الفوهة على الصدغ النابض بذعر. يصيبه حقد مباغت على الفوهة الباردة. يود ردمها. لم يكن يظن أنه متعلق بالحياة بهذه الكيفية الآخذة في التعمق مع تقادم أمد عزلته. ورغبة عارمة في الظهور والتجوال في شوارع طفولته، في مصافحة البشر.. كل البشر الطيبين والأشرار السائرين في شوارعها وأزقتها وشاطئ نهرها، الجلوس في مقاهيها، السباحة في فراتها المثقل بالطين، الضياع ببساتين المدينة، في.. في.. في. يجرفه الحنين إلى النخيل والعصافير، الفيء وحافات السواقي، الطيور الرافة في سماء العصاري، إلى عراك نسوة على الأرصفة، إلى صياح الديكة في الفجر، إلى بوابة ثانوية ـ الديوانية ـ للبنات النافثة من باطنها جوري الصبايا، إلى.. إلى حضن زوجته وطفله.. يحترق.. يتجمر.. يترمد. ينطح الحائط الخرب رامياً المسدس نحو باب الإرسي الصفيحي، ويعود إلى نشيجه المكتوم.

* فصل من رواية «الإرســــي» التي صدرت عن دار «الدار» في القاهرة العام 2008.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة