صادق باخان
دعونا نبدأ حديثنا بهذا الاستهلال التأريخي الموجز من دون الخروج عن سياق العنوان اعلاه.
حين خلعوا على الصحافة وصفاً بانها تمثل السلطة الرابعة فالوصف جاؤا به في الانظمة الديمقراطية التي تحترم حرية الرأي والفكر ولم يأت من الانظمة التوليتارية التي تقمع الفكر المعارض وتحارب كل من يبدي رأيا خارج منظومة الفكر الدكتاتوري ويكون مصيره السجون والمعتقلات وارخبيل الغولاغ ، ولكن لحرية الفكر والرأي حدوداً لا يجوز تحويل الحرية الى فوضى نهلستية ونرى انه حتى في بريطانيا بكل تراثها الديمقراطي منذ العصر الاليزابيثي الاول في القرن السابع عشر لا تسمح للحرية ان تنقلب الى فوضى عدمية فلجأت الى اصطناع حديقة تسمى هايد بارك يسمح للناس فيها ان يرفعوا عقيرتهم بالصراخ واثارة العجيج والضجيج ويقولوا ما شاء لهم القول بحق الحكومة ضمن حدود الحديقة ولا يسمح لهم بذلك خارجها.
المنظر الايديولوجي
صاحب الوجه الشمعي
يقولون بأن الفكر والفن يزدهران تحت ظلال الحرية وبغير الحرية يتحول الابداع الى دروس لمحو الامية ولقد انتحر ثلاثة شعراء سوفييت هم ماياكوفسكي وسيرغيه يسنين وانا اخماتوفا لان قوميسار الثقافة جدانوف احاطهم بالواقعية الاشتراكية في حين لجأ المنظر الايديولوجي ميخائيل سوسلوف ، صاحب الوجه الشمعي ، الى منع رواية دكتور جيفاكو للشاعر بوريس باسترناك من دون ان يقرأها وانما اعتمد على ايجاز كتبه احد قوميسرات الثقافة فاصدر سوسلوف امره بمنع الرواية من النشر فاستغل الغرب ذلك ليشن غارات من الهجوم على الاتحاد السوفييتي لقيامه قمع الفكر والابداع وتم تهريب رواية دكتور جيفاكو الى الغرب ليمنح بوريس باسترناك جائزة نوبل للاداب وقام المخرج دبفبد لين الى تحويلها الى فيلم ملحمي من بطولة عمر الشريف وتتكرر الماسأة مع الروائي الكساندر سولجنتسين والعالم الفيزيائي زاخاروف اللذين اتهما بمعاداة النظام السوفييتي وحكم على سولجنتسين بالسجن وبعثوا به الى ارخبيل الغولاغ ثم نفوه الى الخارج واسقطوا عنه الجنسية السوفيتية ، ومن جديد استغل الغرب القضية ليشن حملة من الانتقادات ضد النظام السوفييتي التوليتاري ضمن لغة الاعلام في حقبة الحرب الباردة بين النظامين الشيوعي والرأسمالي .
في اثناء محاكمته في محاكمات نورنبرغ التي جرت غداة الحرب العالمية الثانية القى البيرت شبير وزير التسلح النازي خطابا مطولا وصف خلاله الطغيان النازي وحلل طرائقه ومناهجه وقال بان دكتاتورية الفوهرر ادولف هتلر اختلفت في ناحية واحدة جوهرية عن الدكتاتوريات السابقة التي ظهرت في التاريخ في انها كانت الدكتاتورية الاولى في الحقبة الراهنة من التطور التكنولوجي التي استغلت استغلالا كاملا جميع الوسائل التقنية لبسط هيمنتها على وطنها اذ من خلال الاجهزة التقنية مثل الراديو ومكبر الصوت تمكن ادولف هتلر من تجريد ثمانين مليون الماني من الفكر المستقل ، ومن هنا يظهر تاثير الاعلام في نشر البروباغندا السيكولوجية لغسل ادمغة الناس وتحويلهم الى بشر مجردين من الوعي لا يتمتعون بالحس النقدي ويعيشون مرعوبين ويصدقون كل ما يستمعون اليه ويقال لهم ولقد درج النظام العراقي السابق على اتباع ونشر مثل هذا الاعلام القائم على الصوت الواحد وقمع ومصادرة كل عقل يفكر خارج المنظومة الاعلامية الممنهجة على وفق الناظم التوتوليتاري وعلى وفق ما يقرره الاخ الاكبر بحسب وصف الروائي جورج اورويل في روايته 1984 وكانت لاجهزة المخابرات دوائر متخصصة لنشر البروباغندا السيكولوجية ضد كل جهة تعادي النظام الدكتاتوري وتنشر شائعات من شانها التأثير في معنوياتها مثلما صنع النظام مع الكورد والدليم والسامرائيين .
ومن هذا الايجاز يمكن القول بغير استطرادات منهجية بأن الرؤية الاحادية للأمن وانعدام الرؤية الاستراتيجية الضرورية لجوانب الحياة التكميلية له تدعو للإسراع برسم الرؤية الاستراتيجية الامنية التي يرتبط فيها الامن العسكري والامن السياسي والاقتصادي والعلمـي والاعلامـي والاجتماعـي.
اعلام ما بعد العام 2003
غداة التحرر من النظام الدكتاتوري في العام 2003 صاحب اعلام الصوت الواحد السائر على نهج وفلسفة وزير الدعاية النازي جوزيف غوبلز مبتكر شعار – اكذب ,اكذب اكذب حتى يصدقك الناس تحرر الاعلام العراقي من الرقيب الفاشي وظهرت عشرات الصحف والمجلات بشتى الاتجاهات الفكرية ومن شتى جهات التمويل ودخل الى عالم الاعلام تجار من اسواق جميلة والشورجة ومن الاميين والجهلة وكان من الطبيعي تبعا لهذه الفوضى ان تنتقل عدواها الى الاعلام ويأتي اعلام مشوه يعمل خارج حدود الاعلام المسؤول والموضوعي والمهني فتنقلب الحرية الى فوضى وتصير لدينا عشرات من الهايدباركات فيضيع دور الاعلام في اظهار صورة العراق الجديد في اطاره الدستوري القائم على النظام الديمقراطي الفيدرالي التعددي امام التحديات الجديدة التي باتت تحيط بالعراق وبالمؤامرات التي صار طباخو الاستراتيجيات من المتقاعدين المنتشرين في هذا الوطن الممتد بين الماء والماء يعدونها ضد العراق الذي راحت مفرداته الجديدة في القاموس السياسي تثير الرعب في نفوس السلالات الحاكمة في المنطقة ونرى انه في هذا المناخ على اثر سقوط الدكتاتورية ظهرت صحف تتخذ من الاثارة والشتائم والاساليب المبتذلة شعارات لها فصارت اشبه بهذه الصحف الصادرة في العاصمة البريطانية ، لندن التي يسميها الانجليز بصحف القمامة Trash Papers مثل ديلي ميرر ونيوز اوف ذي وورلد وديلي اكسبريس وكان من الطبيعي ان تسقط مثل هذه الصحف وتختفي وتبقى الصحف التي تحترم نفسها وتحترم قراءها وتعمل على اظهار الوجه الحقيقي للعراق في تحولاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية في عالم صار للاعلام دوره الفعال في المسيرة الحضارية .
فضائيات مسمومة
كان من الطبيعي على وفق قاعدة لكل فعل ردة فعل ان تثير هذه التحولات البنيوية الجارية في المجتمع العراقي قلق وانزعاج دول الجوار الاقليمي بخاصة هذا المحور المكون من الثلاثي المملكة السعودية وقطر وتركيا الاردوغانية الذي لجأ الى بناء اعلام يروج للفتنة الطائفية والدفع باتجاه اشعال حرب اهلية اشبه بالحرب التي اشتعلت في لينان والتي امتدت من العام 1975 الى العام 1990 ويكفي ان نعرف ان المملكة السعودية خصصت مليار ونصف المليار دولار لإقامة فضائيات جديدة وتمويل فضائيات قائمة تكون مهمتها بث السموم والاخبار والتقارير المفبركة عن العراق وبرزت من هذه الفضائيات كل من الجزيرة والعربية اللتين ما برحتا تحيطان العراق ببحر من الاكاذيب والشائعات وتروجان للجماعات الارهابية مثل القاعدة وما تفرع عنها وتستضيف اشخاصا يقيمون في الخارج معادين للنظام العراقي ومن المفروض على من يدعي انه ديمقراطي ويحترم الرأي الاخر ان يستضيف شخصا اخر له رأي اخر ليستقيم الوزن لا ان يأتي من هب ودب ويرفع عقيرته بالصراخ والعجيج والضجيج وبالكلام المبتذل والاتهامات الرخيصة ،ولقد لجأت السلطات المصرية في عهد الرئيس عبدالفتاح السيسي وفي مبادرة وطنية مباركة الى غلق مكاتب فضائية البغدادية والرافدين العاملتين على الاراضي المصرية .
والمهم في الامر هو – ما دور الاعلام العراقي ليشكل جبهة اعلامية مضادة للإعلام المختنق بالأكاذيب والتقارير والاخبار المفبركة ضد العراق ؟ هل يكفي ان تكون لدينا شبكة للإعلام ومؤسسات اعلامية لتتولى هذه المهمة ام ان الامر يتعلق بنوعية الاعلام وبالأشخاص الذين يديرون هذا الاعلام وهل هم مؤهلون للقيام بهذه المهمة الوطنية ؟
بالتأكيد هناك حديث طويل ومتشعب عن الاعلام العراقي في انه لم يحقق نجاحات كبيرة في تغطية الاحداث السياسية واظهار الوجه الحقيقي للمجتمع العراقي في تحولاته السيكو- سوسيولوجية وهناك من يذهب الى القول ان ثمة انهيارات في المملكة الصحفية ومرد ذلك ان شريحة كبيرة من الاعلام العراقي اصيبت بالمرض الايديولوجي والاشد ما يثير الجدل هذا الرأي الذي اثاره البعض في قوله لا تعطوا الحرية المطلقة لشعب ظل يعيش تحت ظلال نظام توليتاري لمدة 35 سنة وهذه هي نتائـج هذه الحرية – شتائم مبتذلة واتهامات رخيصة ولغـة صحفية انشائية مستهلكة ، صحفيون اميون لا يفرقون بين الشاعرين حافظ ابراهيم وبين حافـظ شيـرازي ومـاذا بعـد؟
كما ترون فان المشهد السياسي العراقي وغداة مرور 11 سنة على الزلزال السياسي الذي ضرب العراق في ربيع العام 2003 ما يزال ضبابياً وما تزال الصراعات محتدمة بين الاحزاب والكتل السياسية وان لهذه الصراعات ارتباطات ومحفزات محلية واقليمية ودولية لكون العراق دولة محورية في منطقة الشرق الاوسط وله مكانته المتميزة في منظمة الاوبك ومن واجب الاعلام الوطني ان يظهر هذا الوجه المشرق للعراق بطريقة علمية موضوعية وليس بلغة الشعارات الفارغة وبلغة الاعلانات المدفوعة الثمن ، اجل نحن في حاجة الى اعلام مهني موضوعي يتمتع الاعلاميون فيه بثقافة موسوعية ويجيدون اللغات الاجنبية ولا يجلسون امام شاشة الانترنت ويقلبون الصفحات ويسرقون من هذا الكاتب او ذاك وينسبون جهود الاخرين الى انفسهم وذلك عندي ابشع صورة من صور الفساد ، فالعمل في الاعلام عمل اخلاقي وثقافي وتثقيفي لكي تحقق الصحافة عنوانها بوصفها السلطة الرابعة وليست حلبة للأميين والامعات الساعين وراء المال والوجاهة الاجتماعية المزورة ، فالعراق هو قدرنا وقد اخترناه وطنا ولم نفكر بالذهاب الى لندن او نيويورك او باريس او ستوكهولم او نضيع في المنافي ونأتيه زوارا مثلما يصطنع الاخرون ، فكونوا ايها العاملون في الاعلام سفراء للعراق واشعلوا الف شمعة في النفق المظلم .