فهم الماضي لإنقاذ الحاضر والمستقبل

أيوب بابو بارزاني

عندما تتعرض المجتمعات البشرية الى نكسات حضارية تهدد وجودها في الصميم، لا بدَ من السعي الى معرفة العوامل الرئيسة التي أوصلت المجتمع الى الوضع المزري، وواضح منذ سنين أن المجتمع الكردي – اقليم كردستان الفدرالي – يعاني من هذه الآفة وعلى يد نخبة متسلطة على الحزب والمجتمع لعقود طويلة.
فالسلطة الحالية متهمة بتزوير جميع الانتخابات التي جرت في الإقليم، وفي كل دورة انتخابية تزداد وتيرة التزوير والتفنن فيه.
فالهزيمة العسكرية المتعمدة في سنجار، نكبة الاستفتاء والذي كان فشله مضمونٌ سلفاً، والأزمة الاقتصادية والمالية الخانقة، والديون المتراكمة، وافساد السلطة القضائية وتحويل البرلمان الى دمية رخيصة، ووزراء لصوص ونهب المال العام وفساد البيروقراطية الكردية وتدني مستوى التعليم الجامعي الى حدود غير مسبوقة، واحتكار الرئيس واخوته وذويه للسلطة السياسية وتحالفهم مع بقايا البعث ومرتزقة نظام صدام حسين من الكرد، والتصرف بالمال العام في غياب الشفافية، والتبعية للرجعية العربية في الشرق الاوسط ودول معادية لحقوق الشعب الكردي تاريخياً، والتهرب من مسؤولية ما ألحقوه من دمار وهزائم، أمور يعرفها القاصي والداني.
كما ان إدارة العلاقات الخارجية من منطلق فردي وبعقلية صبيانية عشائرية، وضع الامن الاقتصادي للإقليم تحت رحمة دول لاتكن للشعب الكردي وحقوقه أي احترام. وكان الرئيس التركي رجب طيب اردوغان واضحاً في كلامه عندما أشار الى ان شريان الحياة الاقتصادي للإقليم هو في «أيدينا».
ففي مراحل معينة من الانحطاط الحضاري، تصبح فضائح السلطة حافزاً لتغيير عميق في بنية المجتمع ووعيه السياسي. اذ يصل المجتمع الى قناعة بالخطأ المميت الذي ارتكبه في المراهنة على أخلاق ووطنية النخبة الحاكمة. علاوة على ذلك يبدو ان عقوداً طويلة من المراوغات والأكاذيب والاختلاسات، أكسبتهم مناعة قوية ضد «الشعور بالحياء والخجل»، فمن خلال التزوير المتكرر والمفضوح أفرغت السلطة الحزبية الحاكمة الانتخابات من كل معنى، فهي مجرد مناسبة لتجديد البيعة لديكتاتوري الحزب ومن هنا المشاركة الضعيفة في الاقبال على صناديق الاقتراع. وبهذا تغلق المنافذ أمام الشعب للتعبير عن ارادته الحرَّة والانتقال السلمي في تداول السلطة.
وعندما يتلمس الشعب طريقه لمعرفة الحقائق، ويرفض حاضره، ويبحث عن التغيير، يكون أقل استعداداً للتأثر بأكاذيب قادة الحزب ووعودهم. وهنا يكون العودة الى التاريخ أمراً ضرورياً، كل ذلك لكي نحدد ونعرف حقيقة القيادات الكردية الحاكمة. يجب وضع قمة الهرم الحزبي تحت المجهر بمنتهى الحيادية والموضوعية:
عامل التربية، خلفياتها الاجتماعية؟ كيف جاءوا الى السلطة واحتكروها؟ وكيف استمروا رغم الكوارث التي صنعوها؟ وكيف خضع الشعب الكردي الى سلطة تهينه وتسرق ثرواته لعقود طويلة؟ كيف أخطأ الشعب الكردي في تشخيصه لجوهر القيادة وصدق أكاذيبها؟ قوة النزعة الوراثية وديمومتها وفرضها بالقوة والمال والتزوير، حتى أمكن لأحفاد واولاد المرتزقة والاقطاعيين اخضاع الشعب الكردي ونصب أنفسهم اسياداً عليه مستغلين القضايا الوطنية المشروعة؟
وكيف بقي هؤلاء القادة حكاما على إقليم استباحوه واستغلوه بعقلية امراء الحرب؟
لقد فشلت محاولات التغير في الإقليم لأن المعارضة التي نشأت على أسس ومبادئ نبيلة للإصلاح الإداري والسياسي كرد فعل طبيعي لفساد السلطة واستبدادها لم تلتزم فيما بعد بما كانت تدعيه، فامتصت نقمة الجماهير الواسعة، لكي تتعامل فيما بعد من موقف القوة مع أحزاب السلطة وثم تشترك معها في الحكومة وتحصل على امتيازات. شكل ذلك ضربة مؤلمة لآمال الجماهير الواسعة في العيش الكريم والحياة الديمقراطية ومستقبل أفضل للأجيال القادمة.
كيف يجب النظر اليها: هل من منظار الرجعية والتقدمية، اليمين واليسار، الوطنية والقومية، الدينية او العلمانية أو الليبرالية الخ….
لا نستطيع أن نضع النخبة الكردية الحاكمة في أي من المصطلحات المذكورة، فهي باختصار شديد «نخبة تنهب ثروة شعبها وتسرق قوته» وتشوه تاريخه وفي الوقت نفسه تستغل شعارات الدولة الكردية والمبادئ الديمقراطية والحريات العامة وسيادة القانون وقدسية البرلمان واحترام الرأي العام لتضليل الجماهير الكردية وابقائها في خانة الطاعة.
تحاول النخبة الحاكمة بخبث تفادي سخط وغضب الشارع الكردي ضد سلوكها المشين بتحويل غضب الجماهير نحو المشاكل المعلقة مع بغداد، كي تستمر هي في الحكم وتوريثه للأولاد والاحفاد بمنطق إقطاعي متخلف.
كل ذلك يحتم تتبع جذور الأزمات المتراكمة، وهذا بدوره يعني العودة الى تاريخ شعبنا خلال فترة تشمل القرن التاسع عشر الى يومنا هذا: دور المشيخات والعشائر في انتاج القيادات لفترات معينة، انحرافها وفسادها، ولادة الأحزاب الكردية الحديثة وتولي العناصر الاقطاعية والعشائرية قيادتها، مستوى وعي الشعب الكردي، البرجوازية الكردية وتحالفها مع الاقطاع والعقلية العشائرية المتجذرة والمقنعة بقناع القومية والديمقراطية؟
كان لإزالة الإمارات الكردية في فترة (التنظيمات) والتي ابتدأت بقرار سنة 1836 وتم تطبيقها عملياً سنة 1838 باحتلال وإزالة الإمارات الكردية، حينها كان الشعب الكردي في مرحلة ما قبل القومية، قام الأتراك بتسليم السلطة الى رؤساء العشائر واعادوا الكرد الى مرحلة قبائل وعشائر متناحرة والتي أعاقت تطور المجتمع الكردي نحو دخول المرحلة القومية.
لابد من تحرير عقل المجتمع الكردي من سموم أكاذيب مرتزقة الاعلام الحزبي على مدى تجاوز النصف قرن، ومايزال سجين النمط نفسه من الحكم واستمرار النخبة القديمة. فربط مصير الشعب الكردي بعائلة أو شخص أو قبيلة هو في حد ذاته مأساة كبيرة.
نضع بين أيدي المهتمين مسلسل من ثلاث كتب تغطي بدايات القرن التاسع عشر الى عام 1975 وهو عام انهيار الحركة الكردية التي كان يديرها الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة ملا مصطفى البارزاني:
بارزان وحركة الوعي القومي الكردي 1826-1914
المقاومة الكردية للاحتلال 1914-1958
الحركة التحررية الكردية وصراع القوى الإقليمية والدولية 1958-1975. ويقع في مجلدين.
آمل ان يسهم هذا المسلسل من الكتب في إيقاظ العقل الكردي وتوفير قابلية تشخيص الأكاذيب وابطال مفعولها من أجل تغيير حقيقي في تحرير طاقات مجتمعنا من الجمود والتعثر المفروض على شعبنا من قبل عدد قليل من الأشخاص غير المؤهلين، والبدء ببناء الأسس التي تترسخ عليها المبادئ الديمقراطية وتفعيل السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية وعلى وفق دستور واضح المعالم ولد من الإرادة الحرة للشعب.

لمعرفة المزيد من المساعي الخفية لإعادة هيكلة الأنماط الفاسدة من الحكم الحزبي تحت غطاء التغيير راجع المقال المعنون بــ:
To Avoid Political Recycling
By: Hishyar Barzani
www.kcdme.com

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة