تغريد عبد العال
من معرض أنشار بصبوص الجديد
يغامر الفنان اللبناني أنشار بصبوص في منطقة جديدة في معرضه المقام في «غاليري صالح بركات» في بيروت. ففي هذه المنطقة الوسطى بين الهندسة والفن، تخرج المنحوتات كأشكال لها كيانها الخاص والمستقل من الأشكال الهندسية المتصلة ببعضها. تتناسق الأشكال وتتناغم لتستقر في شكلها النهائي المجرد والمفتوح على التأويل. تبدو خيارات الفنان متجهة نحو البناء المعماري، ففي كل منحوتة يتضح أنه يضيف الأشكال إلى بعضها بعضاً حتى تبدو مثل عمارة كونية كبيرة. يختار الفنان أن لا يقتضب في بنائه بل أن يجعل الأشكال تتكاثر حتى تتجمع في النهاية وتصبح مهرجانا من الأشكال الحرة التي تفتح نافذتها على الوجود. تجري العادة أننا عندما نتأمل المنحوتات، نتخيل أن لها أشكالا نعرفها، وهي أشكال مألوفة، ربما لحيوانات أو بشر. لكن في هذه المنحوتات أشكال هندسية تقترب من الوجود من دون أن تكون مألوفة لنا تريد أن تكون قائمة بحد ذاتها. أشكال خرجت من يد الفنان على شكل ذاتها، متخذة من الهندسة والفن روحها الداخلية.
يقول كاندينسكي في كتابه «من الروحانية في الفن» إن البعد الموسيقي في اللوحة يكشف البعد الروحي، وإنّ لوحاته ستُنَوّط في يوم من الأيام مثل الموسيقى. وفي هذه المنحوتات يقترب الفنان اللبناني من فكر كاندينسكي ولوحاته فنعثر على التجريد، الذي كان سمة أساسية في فلسفة كاندينسكي، فقد اعتنى الفنان كثيرا بالشكل وأعطاه أهمية كبيرة حتى يعكس المضمون، وهذا يجعلنا نفكر أبعد من اللوحة ومن الشكل، إنها الموسيقى التي أرادها الفنان في لا وعيه، واضعا نصب عينيه أن تتناسق الأشكال كأنها معزوفة موسيقية يصلك تناغمها الفريد دون أن تفكر بنوتاتها. إذًا العمارة الهندسية تريد أن تكون وأن تشكل ذاتها بذاتها مثل الموسيقى.
الملفت أيضا في المعرض أننا نتخيل أن الفنان لا يريد أن يقول شيئا معينا بل أن يجعلنا ندخل إلى حديقته الفنية، فنشعر أننا في مختبر للأشكال، يختبر فيه الفنان أشياءه بدقة متناهية، في حين أن لكل منحوتة قصة على حدة، وما يجمعها هي فكرة وجودها من أشكال مختلفة كليا.
للحجم أيضا قصة أخرى، فبعض المنحوتات كبير جدا، وبعضها الآخر يصغر في الحجم، وهناك منحوتات دائرية في شكلها وصنعت من الفولاذ، وكبر الحجم يجعلنا نفكر في أن الأشكال الهندسية وجدت في هذا الكون في الشمس والكواكب التي حولها، إنها شموس كبيرة وضعها الفنان في وسط المعرض لنتذكر أن الحجم أيضا فكرة وجودية وكونية، إنها الشموس التي تضيء، والكواكب التي وجدنا عليها.
وفي منحوتة بعنوان «الحب الذري»، حجمها صغير جدًا، يُحوّل الفنان أنظارنا هنا نحو التفكير بأنه حتى أصغر مادة في الوجود هي عبارة عن شكل هندسي صغير وهو الذرة، ومنه أوجدت الأشياء الكبيرة. إنها ولادة ذرية تشبه الحب الذي يبشر بالولادات ويثمر بها. من هنا تأتي فكرة البناء، وتؤكد ذاتها عند الفنان، إنه بناء هندسي وجوهري، لا يكتفي فقط ببناء المواد، إنما بولادتها من مواد أخرى، وتحويلها الى مواد أخرى، المنحوتة الصغيرة تتجزأ إلى جزأين، جزء يرينا ما بداخلها، وجزء آخر يطلعنا على الفراغ. إنه فيزياء الوجود، وهو تكوينها الفني من ثنائية الوجود والفراغ، الحضور والغياب.