عبدالكريم كاظم
«إلى درب لا يرجع بصاحبه حيث أتى/ ملحمة جلجامش»
يتشكل سؤال الشعر مثلما يتشكل سؤال القارئ الانطباعي التذوقي والنقدي على لغة عمادها أسلوبان متصلان فنياً لكنهما في التمظهر الجمالي يبدوان مترابطين على وفق حالة شعرية ـ نقدية واحدة، فلكل منهما أدواته التي تنحت المفردة وتستفز المخيلة وتضيف إلى معنى النص جماليات أخرى، كما يتشكل سؤال الشعر في ذهن القارئ ليتحدث، بدوره، عن ماهية القراءة النقدية الباحثة عن الجوهر والمعنى والدلالة، واتساقاً مع هذه القراءة نلحظ أن رباعية الشاعر نصيف الناصري: (الجانب الآخر من الفردوس: الحدود الجنائزية للزمن/ دفع الديّة/ حواجز وكنايات/ مناحاتهم على الغرقى)، تتكئ لغتها الشعرية، أيضاً، على بنيتين: الأولى معرفية، نتلمس من خلالها سمات المعاني والدلالات والثانية فنية، نتحسس خلالها رؤى وأسرار وأفكار أو مخيلة نصيف الناصري الشعرية التي لا تلبث أن تنبعث وتتجدد كلما حصدت ثمارها القراءة النقدية، وثمة نصوص تتحجب عن القراءة حتى لا تكون على الشكل الموازي للفكرة الشعرية، إنها الشراكة الجمالية بعقد بين شاعر يتقن لغته وقارئ يتلمس المعنى ويجهد في الوصول إلى الدلالة المتمادية مع الفكرة، وفي بعض الأحيان، يوالي الشاعر المنحى اللغوي ذاته في اختراق معنى النص والخروج بعلاقات لغوية لا تتلمسها القراءة لكنها محسوسة، هذا الاختراق اللغوي المتصل بالنص يأتي لنا بالجديد المتماهي، ثانية، مع الفكرة أو سؤال الشعر وطبيعة اختياره لعنوان هذه المجموعة أو تلك، كما أن عناوين دواوينه أو مفرداته الشعرية تبعث على التساؤل: هل هذا هو الخيال أم اللغة وماهيتها أم ترى أنه يكتب بطريقة لا تستطيع القراءة النقدية أو الذائقة الشعرية تلمس حاسته الشعرية ومع ذلك تجعلنا نستحسن نصوصه حتى أننا من فرط الغرائبية التي يكتب بها نتوقف طويلاً أمام هذه الفكرة الشعرية والعبارة أو تلك الجملة أو الصورة الشعرية، أحياناً يعتمد أسلوباً سريالياً لا نصل خلاله إلى المعنى وأحياناً يكتب قصيدة مدهشة في أسطر قليلة نستطيع أن نفكك رموزها وهناك نصوص يمارس خلالها الشاعر عملية تكثيف الخيال وكأننا أمام لوحة تشكيلية سريالية أو مشهداً سينمائياً تأريخياً أو أمام سيرة الشاعر بوجهيها الخارجي (الذات) والداخلي (عالمه الآخر) لنقرأ هذه المقاطع: (حياة كل منا تستمدُ بذرتها من الكلمة التي تنمو في فوضى الماوراء) أو (كل شيء ينغلق علينا في المياه الآسنة لمرايا آمالنا) (لماذا لا نُشبّه الثمرة المطوية في النوم بما لا يتطابق مع ثمراتنا) (ونرحل إلى اللاوجود مع الطعنة الوافدة من الهاوية).
يستدرج الشاعر أفكاره الشعرية للكشف عن مكائد اللغة وغرابتها، فثمة تداخل فني ومعرفي وجمالي بين الطرفين دائماً ما ينتهي بنص مغاير تسوده الغرابة، وأعني بالغرابة هنا خروج اللغة الشعرية من القول الشعري المألوف ومن المفردات الآسنة التي تفوح منها روائح نتنة مردها إلى اللغة التقليدية، من هنا يقع نصيف الناصري في رباعيته على المعنى المجرد لكلمة الغرابة، بل يتجاوزها إلى ما هو أبعد منها، إلى الأساطير والجغرافيا والفلسفة والأديان والتأريخ، الزمن والعزلة والأحلام والخلود والموت الذي يقول عنه: (أيها الموت يا خليلي) (مرحى يا موت) (لكن الموت خبرة ولا يتأذى فيه إلا من جهل ذاته وبرع مع نظرائه في العَتَه)، إضافة لالتقاطاته المقاربة للكوميديا السوداء: (شاعر يشيرون إليه بالمُذنَّب) وإلى مساحات شعرية وفضاءات المخيلة الجامحة ويتسلل لجوهر المعنى الجمالي المتصل بالكتابة الشعرية خصوصاً في الشطر الذي يقول فيه: (وآمل أن أحدق طوال مكوثي في القبر بالنبضات المنتظمة للكينونة).
ثمة سؤال: كيف يمكن لنا أن نفهم جوهر هذه النصوص الشعرية ودلالاتها ؟ إذا كان السؤال النقدي بشأنها لا يكون من الناحية اللغوية فقط بقدر ما يكون السؤال، وهو الأهم، حول دلالاتها التي تُلخص شكل النص أو أسلوب الكتابة، بمعنى إعادة صياغة فنية النص ولغته بحيث تظهر لنا هذه العبارات أو تلك الجمل بهذا الشكل الفني والجمالي واللغوي مما يدعونا السؤال ثانية للبحث عن إشارات تتعلق بالمعنى لتجعل القراءة النقدية متصلة بجوهر النص أو بسماته الرمزية التي تجعلنا لا نثير أسئلة شكلانية محكومة بآراء نقدية مستعادة حول علاقة النص الشعري بالمعنى، تلك العلاقة المرتبطة بصورة متكاملة بالبداهة والمعرفة والتأمل، لنتلمس بعض السمات الرمزية المشار إليها سلفاً والمتصلة بالتأريخ والزمن والكينونة: (الزمن قوس يطلق فيه الوجدان السهام صوب الأبدية) (التأريخ لحظة معادية وللمتبرمين فيه طرقهم التي يلبون فيها نداء الصفوة) أو (يحفظ التأريخ باستعاراته ما آمنا به والمرء يُسجى في النهاية).
هناك الكثير من النصوص التي يكتبها نصيف تتطلب جهداً نقدياً مثلما تتطلب من القارئ تجاوز الظن الذي قد يصيبه بسبب تعقيداتها اللغوية وصورها المقاربة للسريالية، هذا الكلام يحمل نوعاً ما جزءاً من الحقيقة الموازية للقراءة النقدية، ولكن هذه التعقيدات تحمل، في الوقت نفسه، الكثير من المضامين الفكرية والفلسفية والانفعالية التي ينقلها النص إلى القارئ مثلما يلتقطها الشاعر من الواقع المرئي أو المخيلة بصورة حسية يستطيع القارئ النقدي أن يدرك مغزاها وإشاراتها وإيماءاتها ويمكننا في هذا المقام أن نستعين بما قاله الشاعر الفرنسي ألن جوفرا في الحلقة الدراسية المكرسة لتأريخ السريالية وترجمه الشاعر العراقي عدنان محسن: (السريالية والشعر: الشاعر كائن يسمع تنفسه ويتكئ على أنفاسه وأعضائه وعقله ليهدم نظاماً وليعارض تلك القوانين التي تبرمج الكارثة «ومن ضمنها قوانين اللغة» كائن لا يصل بحومه فوق تخوم الكارثة إلى ما يريد، أعني الوصول إلى اكتشاف البصيرة الجديدة/ الحوار المتمدن/18.4.2014) لنتأمل هذه الالتقاطات المقاربة، إلى حد ما، لهذا التفسير: (نشرّح الكثير من الصقور في الثغرة) (هل يتوجب عليّ أن اتخلى عن ما لا يحضر وما لا يومض بين الحجارة؟ وفي التقاطة أخرى يكتب: (مستفيداً من التماس الحجارة شفاء جرحها في الشمس).
في حوار مع نصيف يقول فيه: (اكتشفت أن العزلة تجعلني أتكلم كثيراً) من هنا يمكننا القول أيضاً: ثمة نصوص نتلمس دلالاتها من عزلة الشاعر وتجربته مع الحب فنعثر على مفاتيح أخرى توصلنا لمعنى النص أو فكرته، وإلى توجهات الشاعر اللغوية وفلسفته في الحياة والعزلة والتشرد، في نصوصه أيضاً يتحدث نصيف الناصري عن سنوات المراهقة والشباب والحرمان إضافة لتجربته مع الموت وهربه منه في حروب لا جمل لنا بها ولا ناقة، وحين يتحدث عن الحرب والحب أو العزلة والموت فهو لا يتحدث أو يكتب بطريقة اشتقاقية محضة بل بأسلوب شعري محض، يقارب فيه بين جوهر الموضوع وفنية الشكل المرتبط بالنص الشعري، لنقرأ هذه المقاطع المختارة: (أضواء قرنقل فياضة على وجه الغريق في تبديله النهار بالليل) (أعطيتك الحاضر الخلاب لحياتي ودللّتكِ ورفهتكِ وأرغب في الموت على حرير أنهار شعرك) (يعزيني الآن في الاستراتيجية النبيلة للحب افراغ الذاكرة الهانئة من فيروس محبتها ومصافحة اللامبالاة) (ما يطري جمالك كمية من الغبطة الفاجرة نحوزها في هبوب نعناع الجنس).
خاتمة: ثمة، في شعر نصيف الناصري، معنى آخر يكثر تكراره بمئات الصور والتعابير والجمل. وهذا المعنى الذي لمسناه، في هذه القراءة، يتصل ببُعدٍ ميتافيزيقي ويشكل، في الوقت نفسه، أحد الهموم اللغوية والفنية والجمالية الملازمة لتجربة الشاعر وللأسئلة المتصلة بالمصير الإنساني أيضاً، وأعني هنا معنى جريان الزمن والموت وما يتضمنانه من نضارة وهموم، ألم تأت الصرخة الأولى التي أطلقها جلجامش تعبيراً من الشعور باللوعة والتساؤل أمام محدودية المصير الإنساني وخطر تبدد اللحظات الهانئة من عمر الإنسان في ملحمته الخالدة، ثم يستتبع الفكرة بشأن الحيرة التي يخلقها الإحساس بالموت أو بهرب الزمن ومحدودية المصير الإنساني.