أخطر ما يواجه المجتمعات والامم عند المنعطفات التاريخية هو فقدان البوصلة، ذلك الخلل الاساس الذي يدفعها الى غياهب المتاهة والضياع وبالتالي الى قعر مآلات لايدرك عواقبها حتى الراسخون بآخر علوم البشر. ومع كثبان التحديات العسيرة والمعقدة التي انهالت على رؤوس سكان هذا الوطن المنكوب بكل انواع الهزائم المادية والحضارية والقيمية بعد مرحلة الفتح المبين عام 2003 وجدنا انفسنا بمواجهة نوع من الهموم والاهتمامات لا تمت بصلة لكل ما له علاقة بحاجات ومتطلبات عالم اليوم الاقتصادية والسياسية والمعرفية. مرحلة تحول من الدكتاتورية الى الديمقراطية تدشن بسلسلة مؤتمرات وكونفرنسات عشائرية، لينبري عدد من العاملين في بازار القانون والتشريعات والقضاء لاضفاء صفة منظمات المجتمع المدني على تلك النشاطات المنحدرة الى مضاربنا من كل فج عميق وضحل من مغارات وحفريات انقرضت عند غالبية سلالات بني آدم ولم يستثن من ذلك اشقاءنا في عشائر الزولو والمؤتلفين معهم من الهوتو والتوتسي..
الغالبية العظمى ممن تلقف مقاليد امور المستوطنة بعد “التغيير” تتبع تقاليد وتقنية النعامة بمواجهة الكارثة المحدقة بمشحوفنا المشترك، وهذا ما اشرنا اليه مبكراً في غير القليل من الكتابات حول المهمة الاساس والعمود الفقري للدولة والمجتمع (القضاء) والى خطورة ما روج اليه بكل خفة وانعدام مسؤولية وحكمة، عندما اوهموا انفسهم وشعوب وقبائل وملل هذا الوطن، بامتلاكهم عبر فرمانات بائسة بامتلاك القضاء المستقل..؟! وحول تلك الاكذوبة القاتلة لا نحتاج الى جهد كبير لدحضها، وبامكان كل من ما زال يمتلك شيئاً من العقل والانصاف ادراك الحطام الذي خلفته أم الجرائم (محكمة الثورة) وما نضح عن جوفها النتن من محاكم وأشباه قضاة وقراصنة في هذا الحقل الأشد فتكاً في تقرير مصائر البشر. لذلك سيلحق مثل هذا النهج بالتعاطي مع ما يعد السنام الاعلى في هرم اولويات المجتمعات والدول (القضاء) ضرراً يصعب مواجهة اثاره المدمرة على حاضر ومستقبل هذا الوطن المنكوب بهرم المعايير المقلوب. لذلك تعد مهمة التصدي لقضية الشروع بوضع الاسس المتينة لبناء مؤسسات قضائية وفق المعايير التي ارتقت لها سلالات بني آدم بعد شرعة الاعلان العالمي لحقوق الانسان ومنظومة الحريات الحديثة؛ رأس كل تحول جدي في مواجهة حالة الضياع الشامل التي افترست كل مجالات ومستويات حياتنا. وهذه المهمة تتطلب اختيار خيرة بنات وابناء ومواهب هذا الوطن للنهوض بها، لا ان تترك للنسخ الجديدة من قراصنة المنعطفات التاريخية وحطام البشر.