غاندي وطاغور وفاطمة أحمد!

لا أعرف كيف ترجمت مجموعة رابندرانات طاغور الشعرية (قربان الأغاني) من البنغالية إلى الإنكليزية عام 1912، وأحدثت كل هذا الصخب الذي انتهى بمنحه جائزة نوبل في الأدب في العام الذي يليه. لكن من المؤكد أن المترجم كان قريباً من عقل وقلب طاغور إلى الدرجة التي جعلته ينجح في مهمته كل هذا النجاح. فكان بذلك أول شرقي يحصل على هذه الجائزة على الإطلاق.
لم يكن طاغور شاعراً عادياً، فهو ينتمي إلى طبقة البراهما، أعلى طبقات الهندوسية. وكان والده من كبار الكهنة. وكان لا بد أن تترك هذه النشأة آثاراً بالغة عليه، وتجعله أميل للزهد والتأمل والإخلاص للحقيقة. لكن مثاليته هذه اقترنت بالعمل والكفاح والثورية. حتى أنه عاب على المهاتما غاندي دعوته للعودة للنول أو آلة النسج القديمة. وكان رأي طاغور هو الأخذ بالتقنيات الأوربية. فرفض الاستعمار في نظره لا يعني العزوف عن الآلات الحديثة، بل في الحصول عليها. ولم تعجب طاغور وجهة نظر غاندي باستخدام التقشف في مواجهة عدو مدجج بالسلاح. فالمقاومة الحقيقية تنبع من بناء مجتمع متطور، آخذ بأسباب الحضارة، راغب في الاستزادة منها. بل إن طاغور كان يرى إمكانية التعايش بين الانكليز والهنود، فوجود الحكم البريطاني دليل على وجود التخلف الشديد لدى الأمة الهندية.
وما حدث أن الغلبة كانت لغاندي، لسبب بسيط هو أنه كان أقرب لروح الهند من طاغور، وأكثر قرباً منه للجماهير.
ولم يكن العراق بعيداً عن هذه المساجلات، بعد عقد معاهدة 1930. فاغتنم الملك فيصل الأول زيارة طاغور لإيران، ودعاه لزيارة العراق. فقدم هو وزوجة ابنه، واثنان من زملائه الشعراء، إلى العراق في العشرين من أيار 1932. وكان في مقدمة مستقبليه في مدينة خانقين الشاعر جميل صدقي الزهاوي. ركب بعدها القطار إلى بغداد فاستقبله في المحطة الفريق جعفر العسكري وزير الدفاع وعدد كبير من المسؤولين والأدباء، ودعي للإقامة في واحد من أفضل فنادق بغداد هو التايكرس بالاس المطل على نهر دجلة. وأقام له الملك فيصل مأدبة عشاء في القصر الملكي بحضور رئيس الوزراء نوري السعيد وبقية الوزراء. ثم تكررت الدعوات وجلسات الاحتفاء بالشاعر العظيم، في المقاهي والمتنزهات، والمجالس الخاصة.
ولما كان طاغور من محبي الموسيقى، فقد قام جميل صدقي الزهاوي بترجمة إحدى أغانيه إلى العربية ليلحنها الفنان الكبير صالح الكويتي وتغنيها المطربة فاطمة أحمد. والأخيرة هي المطربة الحلبية الأصل المعروفة باسم زكية جورج! أما الأغنية فهي (يا بلبل غن الجيرانا / غن وتفنن ألحانا / فبنيتهم كسرت قلبي / وليبق لديها جذلانا / ولحقل أبيها من حقلي / تتطاير أسراب النحل..). وقد شكك البعض بنسبة هذه الأغنية إلى طاغور، لأنها لا تلائم روحه الثورية. ولكن هذا البعض نسي أن طاغور وضع أكثر من 2300 أغنية بالبنغالية، والأغنية شئ، والقصيدة شئ آخر. وكان الرجل شاعراً وروائياً ورساماً وموسيقياً ومخرجاً سينمائياً. فجمع المجد من أطرافه وأصبح بحق واحداً من أعظم الشخصيات التي أنجبها الشرق في القرن العشرين!
محمد زكي ابراهيم

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة