وذاقَ ما ذاقوا

– 1 –
التطرف والغلو مرفوضان سواءً كانا في ثواب أم عقاب.
إنّ الاعتدال والوسطية هما أفضل الصيغ للتعامل في كل الأمور، أيا كانت طبيعتُها حتى لو كانت عبادية محضة، فضلاً عن غيرها من الأمور.
فلو أنَّ رجلا طلّق الدنيا وتفرّغ للعبادة وحدها، لما كان صاحب الكفة الراجحة …
انه جعل نفسه في شرنقةٍ وعزَلَها عن أنْ تكون أداةً فاعلة في الإعمار والتنمية وزرعِ بذور الحق والخير في المجتمع.
– 2 –
ويخطأ مَنْ يعتقد انه بمنجىً من العواقب الوخيمة التي تنتظر أولئك الذين يبالغون في الغلظة والقسوة والفتك بالناس.
وأبرز الأمثلة في هذا الباب:
التنور الذي صنعه (محمد بن عبد الملك الزيّات) لتعذيب مَنْ يريد أنْ يعاقبه.
وقد تسألني وتقول:
من هو محمد بن عبد الملك بن الزيات الذي كان بمقدوره أن يعذّب الناس ويفتك بهم؟
إنه وزير المتوكل العباسي.
كما انه أديب كبير، شاعر شهير، وكاتب قدير، ويفترض في الأديب رهافة الحس ورقة المشاعر، إلا أن الزيّات اختار لنفسه طباع السباع والذئاب!
ثم ذاق– بعد أنْ عزله المتوكل- ما أذاقه الذين اصطلوا بنيران تَنورِهِ.
وهنا تكمن عظة التاريخ.
لقد صنع تنوراً من الحديد، ثبّت فيه المسامير بحيث جعل رؤوسها تبرز من باطن التنور!
فمن أراد تعذيبه أمر بتسخين التنور بحطب الزيتون، حتى يحمّر، ثم يلقي به في ذلك التنور، فيلقى أشد العذاب من وقوعه على تلك المسامير وضيق المكان حتى يهلك.
ولما غضب عليه المتوكل أمر أنْ يُرمى به في ذلك التنور الحديدي، فَبَقِيَ يقاسي العذاب في التنور أربعين يوماً حتى هلك.
وفي اليوم الأخير من حياته طلب ورقا ودواةً وكتب هذين البيتيْن وبعث بهما الى المتوكل:
هي السبيل فمن يومٍ الى يومِ
كأنّه ما تُريك العينُ في نومِ
لا تجزعنَّ رويداً انها دُولٌ
دُنْياً تنقّلُ مِنْ قومٍ الى قومِ
لقد ذاق طعم العذاب الذي كان يُعذّب به الناس، وليس له إلاّ أنْ يلوم نفسه فهو الذي ابتكر صنع التنور الحديدي القاتل.
ولم تصل الرقعة التي كتب بها البيتين الى المتوكل في نفس اليوم، وإنما وصلت في اليوم التالي، فأمر بإخراجه من التنور، فلما بلغوا التنور وجدوه قد فارق الحياة.
تتمة المنتهى في تاريخ الخلفاء/ ج 3/ 318-319
– 3 –
ان الدكتاتور المقبور الذي حكم العراق بالحديد والنار، وقتل الأحرار والحرائر بلا هوادة حتى دفن الأحياء في مقابر جماعية بمن فيهم الأطفال والنساء، كانت نهاية أمره أنْ يعيش في حفرة، حقيرة بعيداً عن كل ما كان يتمتع به من بذخ، ثم يُلقى القبض عليه ويُحاكم ويُحكم عليه بالإعدام شنقا حتى الموت فيُشنق بعد أن شنق ما يتعذر علينا إحصاؤه من عيون الرجال والنساء.
وهذه هي عاقبة الظالمين من الفراعنة والجبابرة ومَنْ سار على دربهم من الأولين والآخرين.
حسين الصدر

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة