أيوب بابو بارزاني
ونعني ب «رجال بريمر» أولئك الأشخاص الذين كانوا خارج العراق، في أوروبا أو الولايات المتحدة الاميركية أو إيران وغيرها، أما هربا من بطش صدام حسين أو كانوا من المعارضين لنظامه.
وهؤلاء استمروا في نشاطاتهم كمعارضة سياسية أو مقاومة مسلحة. فالطرف الكردي كان يقوم بعمليات مسلحة من حين لحين آخر وبدعم من إيران، أثناء الحرب العراقية الإيرانية، أما المعارضة في الدول الغربية فكانت تقوم بمظاهرات احتجاجية أو كتابة النشرات والبيانات وعقد الندوات تندد بها طغيان نظام صدام وانتهاكاته لحقوق الانسان على نطاق واسع. في جميع الأحوال المعارضة المسلحة والسياسية لم تكن لتشكل خطراً على النظام.
كانت الولايات المتحدة الاميركية تخطط منذ فترة تغيير الأنظمة في منطقة الشرق الأوسط. العراق وإيران وليبيا وسوريا كانت من بين الدول المستهدفة.
اتصلت المعارضة العراقية بالدوائر الغربية وبالأخص في الولايات المتحدة وبريطانيا، والتقت أخيراً آراء الطرفين في العمل لإسقاط نظام الطاغية صدام حسين، من خلال الغزو العسكري واحتلال العراق 2003 بحجج وهمية كما اتضح فيما بعد.
قادة المعارضة العراقية في المهجر لديهم نقاط مشتركة من أهمها أنهم عاشوا فترة طويلة في الخارج، والحياة الاجتماعية تفتقر الى القيم التي تربوا عليها في الوطن، الكثيرون منهم عانوا من ضنك العيش وحياة الغربة الصعبة والتهميش، والعمل ضمن الثقافات والقيم الشرقية والغربية غير المتجانسة. ومعظمهم كانوا متشائمين فيما يتعلق بجهود المعارضة العراقية في اسقاط النظام، وهنا كان الانخراط في المخطط الأميركي. وبرغم اختلاف الانتماءات الدينية والسياسية والأيديولوجية، اجتمعوا على فكرة اسقاط النظام وبناء المجتمع الديمقراطي وتحقيق أسس العدالة الاجتماعية وسيادة القانون والتعددية.
وكانت سلطة الائتلاف المؤقتة برئاسة بول بريمر هي التي تولت سلطة البلاد بعد الاحتلال. ومن هؤلاء العراقيين المعارضين في الخارج شكل بول بريمر مجلس الحكم في تموز/يوليو 2003، وتم تبني نظام دورية رئاسة مجلس الحكم شهراً واحداً لكل عضو. امتدت فترة صلاحيات المجلس لغاية حزيران 2004.
كان المجتمع العراقي يجهل ماهية هؤلاء المعارضين العائدين من وراء الحدود، وفيما يخص القيادات الكردية والعودة من الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهم على رأس مجموعات مسلحة، احتلوا أراض واسعة وأقاموا مقراتهم في العديد من نقاط الحدود وفرضوا فوراً الضرائب على المواطنين حتى اثناء انتقالهم من مناطق تحت نفوذ حزب الى مناطق نفوذ حزب آخر، أي ضرائب داخلية. ثم اقتسموا جميع الآليات والمكائن التي كانت موجودة لبناء «سد بيخمه» وقاموا بنقلها وبيعها الى خارج الحدود، كانت عملية سلب ونهب منظمة من أعلى القيادات الحزبية الكردية.
كان هذا عملاً مشيناً بحق شعبهم، ودليلاً كافياً لنبذهم وعدم الثقة بهم في قيادة المجتمع الخارج لتوه من قبضة نظام البعث الفاشي، لكن برغم انكشاف جوهر القيادة الكردية، فقد اختار المثقفون، والكتاب والصحفيون ورجال الفكر الكرد، غمض أعينهم عن عمليات السلب والنهب التي استمرت لأشهر، وكانت حصة النخبة القيادية في الأحزاب الكردية كبيرة وأصبحوا خلال أشهر من الأثرياء من خلال بيعهم للسيارات والآليات المنهوبة.
لقد حصلت عمليات النهب فقط في المناطق التي سيطرت عليها قيادات الأحزاب الكردية، في حين كانت المعارضة العراقية العربية ماتزال في المهجر.
خلال غزو القوات الاميركية والبريطانية العراق وسقوط بغداد، عادت قوى المعارضة ومعظمها من الشيعة الى العراق، وكان بول بريمر يمثل سلطة الاحتلال وحوله تجمع رؤساء الأحزاب الكردية والمعارضة العراقية الدينية، العربية والكردية وكانوا يأملون الحصول على المناصب والمال. وقد تعامل معهم بريمر من موقف القوة والمعرفة بماضيهم وسلوكياتهم، واستغل اطماعهم وطموحاتهم في ترسيخ مصالح الولايات المتحدة في المنطقة.
كان بريمر حريصاً على تغذية «نخب سياسية عربية وكردية وخلق تعددية في مراكز القوى الداخلية» يسهل دفعها نحو التناحر أو التصالح على وفق مصالح قوى الاحتلال ومتى ما أرادت. يمكن القول ان الصراعات الدموية بين القيادات الكردية هي صراعات على المال والسلطة بالدرجة الأولى.
وعندما تجمع المال لدى قيادات الاحزاب عربية وكردية، اندفعت الجماهير العريضة الى الانخراط في هذه الأحزاب وقد بلغ بها الفقر حدود البؤس والمجاعة. ومن هنا ازدادت سطوة النخب الحزبية على الجماهير ولم يعد هناك شيء اسمه «الرأي العام» الذي يؤثر على سياسات الأحزاب، بل حفنه من رؤساء الأحزاب تهيمن على مقدرات الملايين من المواطنين الذين وجدوا أنفسهم بلا حماية بانهيار مؤسسات الدولة.
معظم الشخصيات القيادية – كردية وعربية -التي تعاملت مع بريمر، تمتعت بامتيازات مالية وغض الطرف عن التجاوزات اللاقانونية. وهو أسلوب مدروس بدقة لترسيخ سلطة الانتداب المباشرة أو غير المباشرة.
«رجال بريمر» من العراقيين تربطهم روابط المديونية لسلطة الاحتلال، سواء التخلص من نظام صدام حسين أو المنصب أو الثراء والافلات من المحاسبة. وهي شخصيات لم تصنع نفسها كي يكون لها وزنها الطبيعي والثقة بالذات، فهم يعرفون أنهم لم يتبوأوا مناصبهم بكفاءاتهم، انما « أتت بهم» سلطة الاحتلال وسلمتهم المفاتيح.
وينجم عن هذا الإطار من العلاقة مع واشنطن، أن النخبة من «رجال بريمر» قد يتنافسون ويهاجم بعضهم البعض ويهددون أو يتحالفون من جديد بعد عداء شديد، كل ذلك يرينا بوضوح أن هذه النخبة انتهازية في الجوهر وممعنة في مصالحها وغاياتها الشخصية، وهي ليست النخبة التي ستحقق سيادة القانون والقضاء على الفساد والعمل على وفق المبادئ الديمقراطية وبناء مؤسسات فاعلة وتطوير قاعدة اقتصادية منتجة وكبح جماح التدخلات الخارجية الخ..
اسهمت هذه النخبة في الفساد والتزوير – بالأخص اجهاض أي تغيير نحو الديمقراطية الحقيقية في كردستان _ وهدر المال العام وفرض سلطة عائلات فوق القانون والتهرب من المسؤولية ومبدأ المحاسبة والارتباط بأجندات خارجية مشبوهة لا تخدم مصالح الشعب في الإقليم الفدرالي.
لقد ترسخ الفساد وسوء الإدارة والمحسوبية والتفنن في تزوير الانتخابات واستخدام لغة التهديد واجهاض محاولات التغيير أن نجم عنها يأس شعبي من عمل المؤسسات الإدارية في الإقليم والمحتكرة حزبياً ولصالح حكام الحزب وإنها لا تعكس ارادته الحرة.
ليس من المستبعد أن يبحث الشعب الكردي طريق الخلاص خارج الآليات في الإقليم لفرض ارادته.
قد تكون التغييرات أسهل في بغداد نظراً لفسحة الديمقراطية المتاحة وبرلمانها النشط، فلا أحد يستطيع طرد رئيس البرلمان في بغداد، لا رئيس الجمهورية ولا رئيس الوزراء، فالفضيحة ستكون أكبر من تحملها في المجتمع العراقي على عكس ما حصل في برلمان أربيل المعوق منذ الولادة.
لم يعمل بريمر ومن بعده الحكومات الاميركية المتعاقبة من أجل تصحيح المسار في العراق وقد احتلوها بذريعة بناء الديمقراطية.
فالديمقراطية ليس مرحباً بها أميركيا ولا يهمها الشعب العراقي ولا تريد حكاماً صادقين في خدمة الشعب، فالمهم هو أن «رجال بريمر» يعملون داخل الإطار الذي صممه لهم بعد الغزو الأميركي للعراق ثم تركوها لمن لا يملك الخبرة ويمنع التغيير ويفرض سلطته بالقوة وشراء الذمم.
ان الازمات المتراكمة والتحديات طوال 28 عاما في أربيل وبغداد وخطورة استمرارها تحتم تكاتف الشعبين في حركة سياسية واحدة، فمن غير الممكن أن تكون هناك دكتاتورية في أربيل وديمقراطية في بغداد أو العكس. أن تشرذم قوى الجماهير العريضة لا تخدم الا ديمومة الفساد ومزيد من الدكتاتوريات وقد ننتهي في خلق مراكز متعددة لما يماثل تكتلات مافياوية في جميع أنحاء العراق.