هو أحد شعراء النصف الأول من القرن الماضي في العراق، ولن نذكر اسمه، عرف بمعارضته للسلطة، وازدرائه للحكومة. كان يهاجم المستعمر ويدعو للثورة، ويستخف بالمجلس النيابي ويتندر على الدستور. فدخل في روع الناس أنه الملاك الذي دفع ضريبة انحيازه للفقراء وعامة الشعب. ولكنه لم يكن كذلك في الواقع، فقد كان يتقاضى راتباً شهرياً من الحكومة يجئ به موفد خاص، ولا يوقع إقراراً بالتسلم، ثم يطرد الموفد، إذا ما ألح عليه بذلك!
ولم تكتف الحكومة بتكريمه على هذا النحو بل خصصت له قطعة أرض زراعية في منطقة قريبة من بغداد مساحتها ألف دونم بالتمام والكمال! تقديراً لمكانته الأدبية، وخدماته للعراق. ولكن هجاءه لها لم يتوقف في يوم من الأيام.
وهو لم يسخط عليها لأنها احتفظت بعلاقة استراتيجية مع دولة كبرى، توجتها بمعاهدة أمنية، وقبلت أن تحتفظ لها بمستشارين وموظفين كبار، يتولون الحكم من خلف ستار، وإن كان هذا ما اعتاد أن يصرح به بمناسبة أو بغير مناسبة. بل لأنها لم تمنحه منصب الوزارة، أو عضوية مجلس الأعيان. واكتفت بتعيينه مدرساً في أحد المعاهد العليا القليلة في تلك الأيام!
وقد ترسخ في أذهان الناس بعد وفاته أنه كان معارضاً صلباً، ناصب «المحتلين» العداء، ولم يهادنهم قيد شعرة. ولم يمدح الملك أو الحكومة أو الوزراء، لأنهم في نظره عملاء للأجنبي. مع أنه كان يدعو لملك آخر، ويروج له، لقاء الحصول على منصب خطير.
يروي أحد معاصريه، أن الحكومات المتعاقبة لم تكن تمانع في ضمه إليها، لو كان يتمتع بأخلاق تؤهله للوظائف العامة. فسمعة الموظف السيئة تجلب العار على دائرته أيضاً، وليس على شخصه هو فقط !
والحقيقة أن الرجل لم يكن متفرداً في هذا المجال، فهناك الكثير من الأشخاص الذين يعدون ما يحصلون عليه معياراً للموقف السياسي. والمعروف أن من يسقط في معيار السياسة لا يرتفع في ميزان الجمال. والعكس صحيح أيضاً.
هناك الكثير من أمثال صاحبنا هذا، من أهل الثقافة والأدب والفن، ممن يذم السلطة ويتوق إليها، ويزدري السياسة ويتقاتل عليها. بل إن بعضهم حاول الترشيح لوزارات شاغرة، من دون جدوى. ولو أنه حصل على بغيته، لما ندت منه آهة، ولما صدر عنه اعتراض!
ولست أرى في سعي النخبة لتولي الوظائف العليا أي عيب. فهم مثل غيرهم من المواطنين يطمحون لاعتلاء أعلى المراتب، والفوز بأرفع الدرجات. ولكني لا أفهم لماذا يوجهون للآخرين، أشنع التهم، وأحط النعوت.
عملياً، لم أجد في تولي بعض أساتذة الجامعات لمثل هذه المواقع ما يدل على أنهم أحدثوا فيه شيئاً من الجدية، أو أضفوا عليه بعضاً من التغيير. فالنظام السياسي هو الذي يحدد شكل النشاط الفردي، لا العكس.
إن علاقة الثقافة بالسلطة علاقة شائكة من دون ريب. ولكنها إذا لم تتسم بالصدق فستكون محل سخرية المجتمع والناس. إلا إذا نجح أصحابها في إخفاء ذلك مثلما فعل صاحبنا من قبل، بكل أسف.
محمد زكي ابراهيم
كان .. يا مكان !
التعليقات مغلقة