وداد ابراهيم
ما جعلني اقف امام تحفة من البناء البغدادي العريق ، ان احدهم قال لي هنا بيت المطرب ناظم الغزالي، لكني فوجئت بأني امام اربعة بيوت في ذات الوقت يمثل كل منها، تحفة معمارية انتصبت في زقاق الدنكجية احد ازقة بغداد القديمة.
اربعة تتشابه في التصميم المعماري والمساحة والصحن الداخلي، وكأنك تدخل في بيت لتخرج الى الاخر فتكون في وحدة معمارية غاية في الجمال والدقة والمهارة الحرفية والبنائية، دون ان ينسى البناء او الحرفي اي من تفاصيل وعناصر البيت البغدادي الذي اتصف بالجمالية، مع الحفاظ على العناصر الاجتماعية والمناخية، حين دخلتها شعرت باني امام عالم ساحر وبعيد كل البعد عن صخب وضوضاء شارع جديد حسن والمتنبي المحيطة به واحسست ببرودة المكان.
درجة الحرارة في البيوت الاربعة اقل بعشر درجات من الحرارة خارج البيت، وقد سكنتها عائلات عراقية من الطائفة اليهودية، حتى الخمسينيات وبيعت الى عائلة البصام ومن ثم «اشتريتها كلها بعد ان وجدت انها وحدة بنائية متكاملة»، هذا حديث د.عبد الوهاب الراضي مالك هذا المكان، واضاف قائلا: « اربعة بيوت متشابهة لها المساحة نفسها والتصميم والبناء نفسه، وبنيت في الوقت نفسه يعود بناؤها الى عشرينيات القرن الماضي، وهي من بيوتات اليهود لكن لم تكن لناظم الغزالي، الا اني اعرف ان زوجته سليمة مراد كانت احد سكنة هذا الزقاق والذي يسمى الدنكجية»، وكلما يمر الوقت اشعر بمتانة البناء وجماليته، مثلا ما يميز البيوت هو وجود( الباد كير) وهو مجرى هوائي يعمل على تدوير الهواء لتلطيف الجو داخل البيت وما يؤكد متانته وجود اطار حديدي في الكثير من تفاصيل البناء لذا لم تحصل فيه اي خطوط او انخفاظات في البناء ومايتميز به البناء سمك الجدار، فهو اكثر من السمك الاعتيادي ما يجعله قويا وعازلا للحرارة والضجيج عن المحيط الخارجي، هذا الزقاق سكنه كبار الشخصيات في بغداد من وزراء وكتاب ويقال ان سلمية مراد كانت من سكان هذا الزقاق «لذا عملت جاهدا للحفاظ على هذا المعلم التراثي والتاريخي لانه يمثل رمزا من رموز العمارة البغدادية».
د.غادة رزوقي استاذ كلية الهندسة ورئيس قسم هندسة العمارة قالت:»هذه المنطقة بالذات من اقدم المناطق في بغداد يرجع تأسيسها الى بغداد الشرقة، حين انتقلت من المدينة المدورة الى شرق بغداد بالقرب من القشلة، لها تاريخ يعود الى الف ميلادي، لذا ما موجود فيها هو تراكمات تاريخية للنسيج الحضري، وهو يتكون من ازقة فيها منازل متراصة تحميها بشكل كامل، فيها الفضاء او الحوش وهذا يتكامل بشكل كبير بين الخصوصية المناخية مع الخصوصية الاجتماعية لكل المجتمع بكل اطيافه، بما فيهم اليهود والمسيحيين والمسلمين، هذه البيوت الاربعة نجد فيها ملامح المدينة القديمة وطراز ينتمي الى عشرينيات القرن الماضي بعد تأسيس الدولة العراقية المعاصرة، نرى الحوش بدأ يغلق من الداخل والشبابيك الصغيرة تطل الى الخارج وبدلا من الشناشيل نجد البالكون وهذا يعني الطراز الانتقالي مبينا قوة الحرفية ومهارة الحرفيين والبنائيين، وقد تمكنوا من ربط الطرز لنحصل على نتائج جميلة.
الاربعة بيوت اجد فيها مدخلا او كما يسمى المزور، وهي من اجمل ما جاءت به العمارة البغدادية، اضافة الى ان من عبقريات العمارة البغدادية، هو تمكن المعماريين من خلال التصميم الحضري للوحدات البنائية ان يستفيد من عناصر الفضاءات المناخية، فالحوش بمساحة تسمح لاشعة الشمس ان تدخلها، ما يحدث ان الهواء يسخن ويصعد الى اعلى الزقاق الذي هو ضيق ومحمي من اشعة الشمس ويبقى الهواء فيه اكثر برودة، ومن خلال فتحات صغيرة من الزقاق الى الفناء يدخل الهواء وهو بارد، هناك دورة للهواء، المعماري المحترف استغل هذه العناصر وفتح ملقفا هوائيا وهو (الباد كير) ليصل الهواء الى الأعلى، وعبر فتحة باتجاه الريح ينزل الهواء الى البيت وتسمى حركة (باسف) اي ان التكوين البنائي هو من وفر هذه الحالة الصحية لتبريد البيت، لذا هناك فرق في درجات تصل الى عشر درجات، والمجتمع عرف كيف يستفيد من فضاءات البيت خلال دورة السنة فيستخدم في الصيف السرداب وفي الشتاء الغرف في الطابق العلوي.
هذه قيم معمارية قبل ان تكون تراثية دروس في التصميم المعماري والطلبة في كلية الهندسة يطلعون عليها ويدرسون اسسها التصميمية، وما حدث ان اهلها الاصليين سكنوا في الضواحي وتركوا هذه البيوت، وعندما عملنا احصائية وجدنا ان نسبة 1% من هذه البيوت مشغول ونحن نقول الاشغال هو افضل صيانة لانها اذا تركت تكون معرضة للتماس الكهربائي، وقد حدثت حرائق في الكثير من البيوت التراثية لذا ندعو اصحابها والمختصين ان تنظر بعين الاهتمام لاعادة التأهيل، كما ادعو المستثمرين لاستثمارها لوظائف سياحية وثقافية او فنية او قاعات فنية او حوارية .
امين المميز صاحب كتاب (بغداد كما عرفتها) ساكن في هذه المنطقة، بل في هذا الزقاق وهو وزير الاوقاف في عهد الملك، ينحدر من عائلة الالوسي من الموصل، كل هذا الزقاق عبارة عن بيوتات لكبار شخصيات بغداد وهي منطقة الحيدر خانة، زقاق الدنكجية، كانت سليمة مراد تسكن في هذه المنطقة .
غادة موسى رزوقي استاذ في قسم هندسة العمارة :» الى الجنوب منها كان موقع دار الخلافة العباسية، قسم من الازقة ترجع الى الفترة التي سبقت تأسيس بغداد، وتعود الى قرى ومدن صغيرة حتى قبل بناء عاصمة كبيرة للدولة، لكن هذه المنطقة لها كيان اكبر تأسست فيها أسواق، واستحدثت وظائف جديدة، وأدخل بعض المعماريين تغييرات وتطورات وتداخلات بين التقليدي المحلي المتكامل، وبعض مواد البناء الجديدة التي دخلت مثلا الحديد الذي لم يكن يستعمل في البناء سابقا بالاضافة الى دخول الافكار الغربية، وهناك تقنية أخرى دخلت الى بناء الحمام من خلال اناء كبير من مادة الصفر، الذي تمتد منها انابيب تحت ارض الحمام حتى يكون الحمام بحرارة عالية وبشكل طبيعي وصحي في المنظور العلمي المعاصر من الطاقات التي نسعى لها اليوم .