يوسف عبود جويعد
في ظاهرة ملفتة للإنتباه ,أن العلاقة الزوجية بعد مضي حقبة زمنية على مرورها ,وخمود أوار أجيجها ,وأفول عنفون الشباب , وعدم قدرة الزوجين لمواصلة حياتهما بذات الوتيرة السابقة الملتهبة بحكم الكبر , ومشاكل الاسرة وعدم قدرة الزوج القيام بواجباته تجاه زوجته بنفس الحماس , وكذلك الحال بالنسبة للزوجة , فإن تلك العلاقة يشوبها البرود والرتابة, فتصبح الحياة بينهما خالية من تلك العاطفة , حينها تشتعل الخلافات لأتفه الاسباب , ويكون الصراخ والانفعال هي اللغة البديلة التي تحل بدلاً من تلك اللغة المفعمة بلاحساس والحب والشوق والشعور بلذة القرب, وللمرأة في هذه الحالة حصة الاسد بإلقاء اللوم والعتب ومحاسبة الزوج لامور كثيرة تخص الحياة المعيشية والحياة الزوجية , والعلاقات الاخرى التي تتطلبها تلك العلاقة , فيتحول الزوج وبعد أن يبلغ الكبر ويصيبه الكسل والعجزبحاجة الى العزلة , ويفضل الانزواء الى الراحة والهدوء, الا أن هذا الهدوء لا يتحقق مع زوجة تقضي يومها بالصراخ والانفعال مع زوجها , وهكذا يقرر منير هذا الرجل الكبير الذي وجد حياته مع زوجته واولاده تسير الى طريق مسدود العزلة , والسكن في بيت مستأجر لوحده, ومن هنا تبدأ رواية ( العواصف تدخل الجنة) للروائي عبد الحسين الحكيم, تنسج خيوطها,إبتدءاً من بنية العنونة التي لا تكتمل بمعناها الا بعد الانتهاء من مطالعة النص, فهذه العواصف هي رحلة الإنفعال والمعاناة التي يضعها الروائي أمام المتلقي ليسبر اغوار هذه الاحداث, ويقوم بمهمة إدارة دفة الاحداث الشخصية الثانوية , الذي كان مع منير أثناء وجودهما في وظيفتهما , ثم الطلب منه أن يكون معه , ويخفف عنه وزر هذه العزلة, ( يعيش الآن وحيداً في بيت مستأجر كبير, نابذاً زوجته وابناءه منها, يصب جام غضبه على كل شيء, يعلن بأن حياته ليست جديرة بأن تعاش , فهي مجرد سلسلة من الكوابيس, يستقيظ المرء منها ليجد نفسه على أهبة الرحيل , الى أين ؟ ) ص 7
وفي لغة سردية قد تبدو للوهلة الاولى مرتبكة لطغيان المباشرة والتقريرية في مسيرتها , الا أنها تنتظم اكثر عندما نتوغل الى معالم النص, لنكتشف أن هذا الرجل الكبير, قد عاش حقبة من الزمن في المانيا , يدرس هناك للحصول على شهادة الماجستير والدكتوراه, وقد تأثر بالحياة هناك, لمشاهدته معالم الجمال والنظافة والنظام الحياتي القويم , والعلاقات الانسانية النبيلة , وتكون شدة معاناته , وأقصى حالات تأزماته النفسية الشديدة التي تصل به حد الإغماء, هي المقارنة غير المتوازنة بين حياته في بلده , والحياة هناك, إذ يجد الفارق شاسعاً جداً, ويحس بأنه يعيش مع النفايات التي تملأ المدينة, ( على يمينك كتل كونكريتية تغلق الشارع الفرعي هذا, أمامها وخلفها تلال القمامة تبحث القطط والكلاب السائبة عن رزقها فيها وتنثرها على الرصيف وعلى عرض نهاية شارعنا الفرعي , على اليسار منهول مغلق بعلب القناني الفارغة ومختلف أنواع الاوساخ , الشارع نفسه تزيّنه علب السكائر الفارغة واعقابها, وأغلفة « النساتل» و»الجكليت» وقشور الموز والبرتقال واحجار وحصى وطبقات من التراب , وعلى امتداد اسيجة حدائق الدور ترفرف أكياس «النايلون» بألوانها المختلفة وهي متعلقة على الاسلاك, بالله عليك ! أهذا مكان لعيش البشر؟ أم أن الانسان في العراق قد تغير جنسه, لم يعد يرى المساوئ ولا يشم روائحها التي تزكم الانوف؟) ص 52
ونكتشف أن حالة التأزم في هذا النص, لم تكن العلاقة الزوجية المتدهورة فقط,ولا العلاقة الاسرية بينه وبين اولاده, الذين يتصرفون عكس ما يريد,إنما حال البلد الذي يعيش تحت الانقاض والنفايات, دون الاهتمام لجانب النظافة والجمال والبيئة الصحية , التي وجدها في بلاد الغرب ( المانيا), وهذه المحاور , خراب الاسرة,تفكك العلاقة الزوجية, إنعدام النظام القويم والصحيح للحياة الصحية داخل البلد, هي المؤثرات الرئيسية التي حدث بمنير الرجل كبيرالسن, عندما يسترسل بالحديث عنها الى زيادة كم الانفعال لديه تدريجياً , ثم تصل الى الهستيريا والصراخ , بعدها يسقط على الارض مغمياً عليه , مما يضطر صديقه لذي يسرد لنا الاحداث باستدعاء الطبيب, الذي يقترح عليه اكثر من اقتراح من اجل خروجه من أزمته, اما وجود امرأة ترعاه , او ممرضة, او دخوله الى دار المسنين, وبهذا تشتد الاحداث وتتأزم, إذ لايمكن في نظام حياتنا أن تأتي ممرضة تعيش مع رجل عازب , ولا يمكن لاي أمرأة أن تزور بيت عازب , والثالث رفضه هو رفضاً قاطعاً, لكون دار المسنين عندنا لا تتوفر فيها أسباب لراحة لرجل كبير, كما شاهدها هناك.
وقد إستطاع الروائي إدخال (الميتا سرد) ضمن متن النص, كون أن منير كان يكتب ملفات عن حياته خلال فترة طفولته , وعلاقاته النسائية , ورحلته الدراسية ويعطيه لصديقه الذي ما فتأ عن زيارته ومتابعة صحته, ليأخذ رأيه فيه.
ونجد أيضاً حتى أثناء رقوده وهذيانه يعيش هذه الازمة ( ويل لأمة تلبس مما لاتنسج, وتأكل مما لاتزرع, وتشرب مما لاتعصر, لقد اصبحت هذه صورتك الحقيقة ياعراق, كل شيء يستورد, الغذاء والملبس والمشروبات,حتى الماء يستورد, لأن مياه دجلة والفرات خلطها سكان العراق بمياه المجاري والمستشفيات والمعامل النتنة المليئة بأسباب الأمراض والاوبئة,)ص 94
وعندما يحاول الطبيب إقناعه بضرورة الدخول لدار المسنين يجيبه:-
(- هل تريد دفني حياً؟ هل توجد في العراق دار واحدة للمسنين تقدم لهم الدفء والحنان, والبهجة والسرور, والرعاية والامان, وتعوضهم عن الجو الاسري الذي كانوا يعيشون فيها؟ إن ما يسمونه دوراً للمسنين في العراق, ليست الا زنزانات مهملة, لا تصلح إلا زريبة للحيونات) ص 103
ونجد ما إشرنا إليه سالفاً في إستقامة المسيرة السردية بإيقاعها المتزن المتناغم, واللغة المتجانسة مع وحدة النص ( شارع ضيق يتطاير منه الغبار صيفاً وموحل عند المطر شتاءَ , يصطخب صباح كل يوم بالفلاحات وهن يعرضن منتجات حقولهن على امتداد جدران الدور على جانبي الطريق) ص 129
وتستمر دورة الاحداث, ويبقى التساؤل قائماً, كيف يخرج هذ الرجل الكبير من محنته , وكيف يعيش حياة تنسجم مع وضعه النفسي, فنتفاجأ بظهور شخصية هي ( ام فيصل) زوجة صديق الدراسة في المانيا, وهي ( كرستينا) المانية الجنسية, لتخبره بحضورها الى بغداد لانجاز معاملة زوجه المتوفى, ومن هنا تتغير دورة الاحداث, كون أن كرستينا تعمل ممرضة, وتعرف امور كثيرة عن امراض كبار السن , فتتغير حياة منير نحو الاحسن , كما يقترح عليه صديقه الذي يرافقه بالحضور الى شارع المتنبي ومتابعة حركة الثقافة والكتب , الا أن كرستينا عندما انجزت مهمتها تقرر العودة الى المانيا الا انها تطلب منه :-
(- لماذا لا تأتي الى «هايدلبرغ» تسكن معي ومع ابني, تبتعد من كوابيس الحياة التي تعيشها هانا)ص 198 , الا أنه يرفض ذلك لاسباب كثيرة سيمر عليها المتلقي خلال متابعته لهذا النص, الا أن معالم التغيير قد بدأت تكسو محياها , كون أن كرستينا منحته الثقة بالنفس.
رواية (العواصف تدخل الجنة ) للروائي عبد الحسين الحكيم,تنقلنا في مقارنة بين حياتين , فنحس بفداحة مانعيش , وقد استطاع الروائي نقل معالم النص بشكل صادق , كونه عاش الحياتين في المانيا والعراق بلده, وهي خطوة متقدمة تحسب له بعد رواياته لاربعة والتي تحمل اسم موحد ( المشروع) وتنفرد كل واحدة منهن بعنوان مستقل.