يرسم الراحل جرجيس فتح الله أفقاً فكرياً وسياسياً نادر المثال فهو بهذا العمل يتطرق إلى زوايا وأحداث وشخصيات كان لها أدوارها المميزة سلباً وإيجاباً في التاريخ العراقي. ومما يلفت النظر في هذه النصوص التي وردت في كتاب رجال ووقائع في الميزان أنها أضاءت بنحو دقيق لحظات وأحداثاً ومسالك فكرية وشخصية وثقافية وتاريخية لم يتطرق إليها احد قط.
“الصباح الجديد” تقدم قسطاً وافراً من هذه الإضاءات كما وردت على لسانه لجمهور لم يطلع عليها في السابق بمعزل عن عمق ثقافة هذا الجمهور او صلته بالسياسة العامة. إنها ليست أفكاراً فحسب وإنما هي شهادات تنطوي على نبوءات مثيرة للدهشة عن اثر المناهج والأيديولوجيات والشهادات التاريخية السابقة للأشخاص الذي يجري الحديث عنهم ويسهم الراحل جرجيس فتح الله في تصحيح الكثير من المواقف والتصورات والوثائق السياسية المرافقة لمواضيع الحديث. كما ان أفكار السيد فتح الله تستكمل في أحيان كثيرة ما كان نصاً لم يكتمل في الماضي. إننا من دواعي الاحترام والتبجيل لهذه الشخصية النادرة نسطر عدداً من هذه الأفكار في الكتاب المذكور” رجال ووقائع في الميزان”.
الحلقة 48
حوارات مع جرجيس فتح الله*
س: مجاراة لما تقول ربما حدنا قليلا عن موضوعنا بالسؤال اما يخطر ببالكم احد من كتابنا تجرأ على اقتحام هذه الموانع الفكرية التي وصفتموها ليسمي الاشياء بأسمائها الحقيقية؟ اعني ما بدا من المسلمات حسب قولكم. اليس هنا من حاول وضع الاحداث التاريخية في المنزلة التي تستحقها؟
لا يخطر ببالي غير واحد. هو المؤرخ الاجتماعي المرحوم الدكتور (علي الوردي) . اذكر انه اجترأ على ان يضع ما انزل منزلة المقدسات في نصابه واعني ثورة العشرين (1920) فقال انها ليست بثورة بالمعنى الصحيح وانما هي واحدة من انتفاضات عشائرية عديدة حفل بها تاريخ بلاد ما بين النهرين قبل العهد العثماني واثنائه لاسباب لا تتعلق بخلع نير اجنبي محتل وانما لاسباب عشائرية خاصة. فكفر (الوردي) وصلب.
اذكر ويذكر كثيرون غيري ان هذا الباحث الذي شق حجاب الصوت عوقب بحملة شعواء وقذف بما لم يقذف به كاتب قبله وعير وسخر به ويضعف انشائه وعدم وقوفه على قواعد اللغة العربية من بين ما قذف به وعندما اثيرت للدفاع عنه وانا لا اعرفه ولا هو يعرفني عوقبت انا ايضا.
وها انا وقد مضيت بعيدا في شرح مقصودي من تعمد الزيف في وقائع التاريخ لا يسعني ابقاؤه مبتورا فأقول: قد يتأخر الزمن ببعض الواقفين عشر دقائق الامور وخباياها بسبب حرصهم على مراكز المسؤولية التي يحتلونها فيضنون بما يعرفون عنها. ويتخفى بعضهم بالمثل العربي السائر “اذكروا موتاكم بالخير”. فلا يماط اللثام عنها الا بعد اكمال الصورة المزورة المكذوبة ، ليصعب رمجها او يتعذر . وهنا تلوح لي اشباح اولئك (الاكادميين) والكتاب الافذاذ الذين يتناولون – ويا للغرابة- سيرة الملك غازي. ليعزوا اليه البطولات والوطنية واصالة الفكر السياسي. بكتب متتالية وليضعوه في الخطورة على السياسة والمصالح البريطانية الى الحد الذي يرغم هؤلاء البريطانيين على تدبير قضية اغتياله. وكلهم تقريبا وقف على الحالة المرضية الواضحة التي شخصها الاطباء فيه بمرض التأخر العقلي. وهو من الامراض الوراثية وقد ابتلي به منذ الولادة وكان الابن شغل ابيه الشاغل الذي تغلب حرصه على ابقاء العرش في ذريته على مصلحة البلاد بابعاده عن وراثة العرش. كل المقربين والوزراء ورجال الدولة كانوا يدرون بحالته المرضية تلك فأثروا السكوت عنها لفائدتهم ، و(رشيد علي) كان اوائل مستغليها كما سنأتي اليه. تركوا اسطورة البطل القومي تنتفخ كالبالون دون ان يتصدى احد لتفجيرها. حاول ياسين الهاشمي ان يقف (غازيا) عن عبثه الجنوني ولهوه وادمانه الخمر فتصدى له الجميع ومن بين الجميع وهذا موطن العجب الحكومة البريطانية نفسها فقد وقفت دون محاولة عزلة.
ليأتي اكادميونا – ومنهم اساتذت للتاريخ في جامعة بغداد- فيحملوا انكليز دمه في حادث سقوط عمود الكهرباء على رأسه اثناء قيادة جنونية وهو في حالة سكر شديد وعللوا بأنه كان من الخطورة بمكان عل مصالحهم في “العراق والمنطقة والانكليز بكل سياستهم عن الأخلاق التي بنوا بها امبراطوريتهم وامنوا مصالحهم لم يكن الاغنيال وقتل الخصوم السياسين في أي وقت من الأوقات جزءاً من اساليبهم ليفتتحوا بعاهل مختلط العقل لايمكن أن يصدر منه ضرر وماأظن (غازياً* أخطر من غاندي) مثلاً؟
بهذا الشكل الذي يفتقر الحياء كتب تاريخنا ومازال يكتب وتتملكني الدهشة واحار في تعليل مايصدر في بغداد من كتب حول أسطورة هذا الملك الضليل!وقياساً على هذا فأنا ماوجدت رئيس حكومة أو سياسياً في العراق رفع من قدره واحيط بهالة من الاعجاب كذباً ونفاقاً وتجنياً على التاريخ مثل رشيد علي الكيلاني
س:اعتبره المؤرخون العراقيون وعدد كبير من حملة القلم في البلاد الناطقة بالعربية من رجال القومية العربية الافذاذ الذين خلفوا بصمات لا تمحى في مقاومة الاستعمار والنفوذ الاجنبي المتمثل في بريطانيا ويذكرون وقوفه في وجهها دفاعاً عن استقلال العراق وعربوته وما قولكم في هذا وكبداية للتعرض الى سيرته ؟
من سوء حظ اليقظة القومية العروبية أن تصطدم وهي تستقبل الافكار الحديثة لتستهدي بها الى الطريق التحرر القومي بعقبتين كبيريتين حرفتاها عن سبيل القومية وقادتاها الى كوارث وبلايا انزلتها بشعوبها العربية وبقوميات اخرى مجاورة لها.
والعقبة الأولى هي ابتلاؤها بنظريين وقادة سياسيين لاتحمد سيرتهم أمثال رشيد عالي اساؤوا اليها اكثر مما اساء حكم الاجنبي ويمر أمامي منهم الدكتور سامي شوكت ,والأستاذ ساطع الحصري ,وميشيل عفلق والحوراني وقسطنطين زريق ومفتي فلسطين الحسيني , وعبد الناصر وامثالهم.
العقبة الثانية انها ومنذ أن نبتت براعمها الأولى انما نمت بين اشواك النازية والفاشية فاكتنفتها وخنقتها هذان النظامان اللذان يمجدان القوة ويدعوان الى قيام حكم اتوقراطي مركزي على رأسه زعيم دكتاتور والى السيطرة على كل شكل من نشاط الفرد والمجتمع قاما بغزوة ناجحة جداً لافكار العربوية لا سيما مادعي الاشتراكية القومية التي رضها ادولف هتلر وحزبه في 1933 على المانيا فبكل بشاعة التمييز العنصري وسيادة العرق المتفوق افتتن القوميون العروبيون وانساقوا من جهة اخرى بالعداء الذي اظهرته النازية والفاشية للديمقراطيات الغربية وعلى رأسها بريطانيا وبذلك التحدي الجريء لمعاهدة فرساي وعصبة الامم وكلها كان يتفق ومزاج العروبيين الذين فتحت قضية فلسطين ومعالجة الانكليز لها وهي في مرحلتها الاولى جراحاً لاتندمل واعجب القوميون العروبيون وافتتنوا بها حققته النازية والفاشية من نجاح على الصعيدين الداخلي والخارجي.
وقد لمسنا نحن تلاميذ الصفوف الثانوية لهيب النار الذي اوقده الاساتذة الفلسطينيون والسوريون واللبنانيون الذين استخدموا واستقدموا بالخمسينيات ولا اقول بالمئات أمثال درويش المقدادي ومحمد عزة دروزه والكنفاني وغيرهم كما انتشرت ترجمه كتاب (كفاحي)بقلم (يونس السبعاوي)انتشاراً واسعاً واذكت أخيلة الجهلة وفي هذه المرحلة الدقيقة برز رشيد عالي وجهاً قومياً لامعاً وقد كسبه بالاصل بموقف المعارض العنيد للمعاهدة العراقية البريطانية الاولى ثم بات قبلة القوميين واملهم المرجى عندما كسبت الوزارة الاولى التي شكلها في العام 1933لقب الوزارة القومية من الصحافة ووسائل الاعلام العراقية والعربية سواء بسواء وبسبب مادعي في الحوليات العراقية بمقمع (تملرد الآشوريين) الذي ختم بأبشع مذبحة في تاريخ الدولة العراقية الحديثة وهو الوصف الذي اطبقت علية وسائل الاعلام الدولية على ان استبق الحديث في هذا وسيأتي في موقعه المناسب لاعتراف لك وللقراء اني ماجئت لأتحدث وراح يتوقل سلم مناصب القضائية بسرعة خاطفة ووجد في ياسين الهاشمي نجماً صاعداً وتوسم هذا فيه مؤهلات معينة ومشابهة به في سرعة التقلب وتبديل الولاءات وفي ذلك الزمن كان ياسين الهاشمي والكيلاني على رأس ذلك الفريق من الساسة المعارضين للمعاهدة العراقي وفي 1924عندما لوح المندوب السامي للهاشمي برئاسة حكومة بغية اسكات معارضته وبعد أخذ العهد والميثاق بأن الوزارة ستطبق ماجاء بالمعاهدة كان الكيلاني وزيراً فيها وهو لم يبلغ الثلاثين من العمر ونشر منهاج الوزارة وفية عبارة ((التآزر مع حليفة ضمن شروط المعاهدة))وعندما وجد الكيلاني ان لم يبق من العمر الوزارة الا ايام وان المندوب السامي استوفى خطه من ياسين ووزارته استبق الكيلاني فاستقال بحجة تلكؤ الوزارة في اعادة النظر بشروط المعاهدة وكان قصدة أن يحتفظ برصيده الوطني المعارض الذي يمهد له السبي الى وزارة تاليه
واستمر الكيلاني لعبة المعاهدة يعرض فيها وهو خارج الحكم ويطلب تعديلها أو الغائها فيأتي بفضل ذلك الى الحكم ليعلن هو ووزارته بأنها ستطبق مواد المعاهدة ولت تجري أي تعديل فيها كانت المعاهدات الثلاث مع بريطانيا يتأرجح بين رفضها والموافقة عليها السلم الذي أمن له الصعود والفوز بأهم وزارة وهو وزارة الداخلية وقد نال حقيبتها لأول مره بعد ثلاثة اشهر من استقالته تلك فعشقتها واططفاها لنفسة طوال وجوده فعالاً في المسرح السياسي فان لم يكن رئيس حكومة فهو وزير داخلية وهو لايقبل بغيرها كلما فوتح في ضمه الى الوزارة وكانت ذات مرة سبباً لقيام عداء شديد بينه وبين نسيبه حكمت سليمان عندا نازعه عليها احدى الطبخات الوزارية في 1935
في العالم 1930 عندما لم يكن وزيراً كان رأيه عن هذه المعاهدة الجديدة (الثالثة)التي ابرمها نوري السعيد تصريحه “اقل مايقل عنها انها استبدلت الانتداب الوقتي بالاحتلال الدائم ومن الواجب رفضها” وبعدها وقع برقية الى عصبة الامم قال فيها أن العراق يرفض المعاهدة ويرفض الخول الى عصبة الامم على اساس هذه المعاهدة لكن عندما كلف في 1932يتألف وزارة أسرع ليعلن في منهاج وزارته بأنه ملتزم ببنود هذه المعاهدة وعازم على احترامها
وتواصلت لعبة المعاهدة هذه حتى ادت به وبالوطن الى كارثة مايس 1941
اذكر بالمناسبة قولاً لاديب الفرنسي الشهير “الفونس كار” (هناك في الانسان الواحد ثلاث شخصيات الأولى هي التي يعضها والثانية هي الحقيقة والثالثة هي التي يظن بأنها شخصيته) وان كان لهذه المقولة نصيب من الصخة فما أظن أحداً اليق بها من (رشيد عالي )
وليس بسر تكالب الساسة على وزارة الداخلية ونزاعهم عليها كلما جرى توزيع الحقائب الوزارية فوزيرها هو المشرف على الانتخابات النيابية او قل تزويرها بواسطة موظفيه الاداريين بواسطة سلطته التنفيذية الا محدودة التي يهيئها له هؤلاء مع قوات الأمن الداخلي التي تؤمنها الشرطة ويمكن للوزير الشره الطامع أن يحقق ثروة طائلة من ضبط اراض أو ارغام الملاكين المحليين على اجتزاء حصص من أراضيهم ومحاصيلهم الزراعية أو أشراكهم فيها ولم يقصر الكيلاني في استغلال هذه الناحية أيام وجوده وزيراً للداخلية بل هنالك أيضاً فرصة لتصفية حسابات وثارات والضغينة والحقد من الصفات الشخصية في الكيلاني وتروى عنه فضائح في هذا الباب منها قصة مع قريبه متةلى الاوقاف الكيلانية الغنية اصبحت حديث المجالس وبها اغضب التولية بعملية غير شريفة من يد المتولى الحقيقي مسخراً القضاء الشرعي لفعلته هذه
واشارات اصبع الاتهام عندما اشتعلت النار في محصول الموسم الزراعي لعبد الكريم السعدون شقيق عبد المحسن السعدون لعداء استحكم بينه وبين هذا السياسي المنتحر لأنه ضن علية في وقت من الأوقات بحقيبة وزارة الداخلية اتباهاً للتقاليد السائر بأن الثأر دين تتحمله الأسرة والعشيرة بالتضامن
*اجرى الحوارات السيدان مؤيد طيب وسعيد يحيى والكتاب من منشورات دار أراس للطباعة والنشر، منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2012