(كُلُّ شَيءٍ يَغدُو صَغِيرًا أَمَامَ عَتمَةِ الرُّوح)

وسيلة جمعة

أنا لحبيبي وحبيبي إلي…
صَوتُ ناديا يُثيرُ انتبَاهَ المارَّةِ؛ إذ ما أَوقَظَ النائِمينَ لِثَورةِ صَوت.
تُنادي، تَعَالَ يا ولَد.. آتِي لِي بِاللَّبَن، سمعتُ اسمَهُ أَيُعقَلُ أَنَّهُ آتٍ مِن قَلبِ الثَّورَة!
أَظُنُّ أَنَّ لِلثَّورةِ رَحِمٌ تُنجِبُ المَيتَ مِن جَدِيد، لكِن لَا شَيءَ عَاد لَا هوَ، وَلَا أنَا أَنفَكُّ أَتَذَكَّرُهُ بِشَهقَةِ نفَسٍ.
– لميا.. لميا..
– نعم أُمِّي، ماذا تريدين؟
– مَاذَا تَفعَلِين؟
– لَا شَيء، أَستَعيد الوَطَن.
تَضحَك:
– الوَطَن!
– اشتَقتُ إلى مُعَانَقَةِ وَطَنٍ، مُتُّ فِيهِ قَبلَ أَن يَمُوتَ فِيَّ.
– كُفِّي عَن هَذِه التُّرهَات، وَتعَالِي سَاعِدِينِي …
– بِمَاذَا؟
– سَأَطبُخُ لَكِ مَا تَشتَهِين.
– حَرَّاء بِإِصبَعُو.
هَكَذَا دَومًا يُخَيَّلُ إِلَيَّ أَنِّي أُحَدِّثُ خَيَالَهَا، لَا يَنفَكُّ يُحَاوِرُنِي بِأَشيَاءَ تُضحِكُهَا.
هَيّا استَيقِظِي يَا قُرُنفُلَة، استَيقَظَ عُصفُورَكِ وَالقُرُنفُلَة لَا تَزَالُ غَافِيةً عَلَى حُلمِ الوَطِن. أَلَم يَكفيكِ هَذِه السُنُون وَأنَتِ غَافِيَة لميا، أَلَم يَكفيكِ هَذَا الانعتاق؟
عَانِقِي الوُجُودَ وَانهَضِي، انظُرِي كَم كبَرتِ لَم يَبقَ مِنكِ إِلَّا شَعرُكِ الفَوضَوِيّ، وَعَيناكِ بِرُغمِ الدُّمُوعِ الَّتِي تُزَيِّنُهَا مَا تَزَالُ جَمِيلَة.
لم تتنبّه لصوت ناديا ولا للهزات المتتالية التي تحاول من خلالها أن توقظها من تخيلاتها المتتالية، وكأنما غارقة، إنما هي تائهة داخل عوالمها تستنجد حضور اليونانية فلا تجد، تبحث عن فَلسطينيِّها الرمادي، فينتهي بها الأمر في حضن آدم.
(أُشبِهُكِ يَا نَهد)..
كُلَّمَا نَادَتهَا بِهَذَا الاسم كَانَت تَضحَك.
بدأت عيناها تتجولان حول الجدران مرة للأعلى للسقف الخالي من أي ترف وأخرى على حجارة الأرض التي لا عبث فيها، حدَّقت بالجدران حوالي عشر دقائق في دورة متكاملة في كل الاتجاهات وهي تفكر وكأنها تعاني مخاض الأمومة، مخاض الاعادة والإنجاب من الموت.
تفكر ما سبب عدم طلاء هذه الجدران، أيُعقل لأني أشبهها؟! أيُعقل بأن جدي….
وقفت عند هذه الكلمة بالذات لتستوعبها بمقدارها الكبير، أعادتها ثلاث أو أربع مرات وهي تشدُّ على حرف الدال.. (جَدددي)، لتصححها بشكلها الدقيق بدأت تتلفظها بطريقةٍ أخرى باستهزائها الهيستيري، أبي، بابا، بالفرنسية مع تسارع دقات قلبها بباااا، ولفظتها بالإنكليزية «داد» بدأت تسجل هذه الكلمات لديها لتتشكَّل في ذِهنها الكلمة الأعمق لجميع هذه المفردات باعتبار أن دول العالم تعاني داء التفرقة واللغة لتفرقة أعضائها تعاني شَتاتها، «اللغة العربية لها نموذج خاصٌّ بهيكلتها، نموذج يُعاني داء الانقراض»، لتخرج منها كلمة يتيمة تبكيها، بصراخها اليتيميّ الذي ارتعشت له الأرض.
تهزي … نعم أنا اليتيمة على ضريح هذا الكون أنا التي لم تتلفظ يومًا كلمة بابا ولا بأي لغةٍ، كنت مستعدةً أن أقولها بالسِّريالية… بالعبرية… بلغة الهواء لو كان بالإمكان، ولكنك أنت مَن بدَّل لي مفهوم الأبوة لينطلق بشكلٍ فِطريٍّ من أبي وجدي، وربما عشيق أمي إليك لتكون الرجل الأوحد في عالمي الرومنطيقي «حبيبي»، كنتُ وما زلتُ أعاني منكَ. ربما هو صاحب هذه التسميات المتعددة الذي – وإلى هذه اللحظة – لم أستطع أن أُركِّبُ له مُفردةً تتناسب مع موقعه في حياتي إن كان له موقع، أظنُّ أن الاسم الدقيق الذي سيتناسَبُ معها هو عشيق، ربما هو الذي كان يفكر قبل إنجابي أني سأُعاني داء الجدران الجرداء من الحياة.
وأحيانًا أخرى يخطر لي مَا الّذِي يَجذِبُنِي فِي هَذِه الغُرفَة؟
أَيُعقَلُ أَنَّ لَونَهَا هُوَ المُشكِلَة! لَونُهَا القَاتِمَ النَّاقِم عَلَى الإِنسَانِيَّة، رُبَّمَا نَافِذَتُها المَثقُوبَة الَّتِي يَتَغَلغَلُ مِنهَا كُلُّ مَا هُوَ جَمِيلٌ كَهَدِيلِ حَمَامَة، أَو لَرُبَّمَا صَوتُ ناديا!
توقَّفتْ قليلًا، نظرتْ حولها وكأنما سمعتُ صوتَها، شعرت بحرارة جسدِها كأنما كانت قُربها تتلمَّس وَجَعَها، كانت قد تركتها وحدها عندما تأكدت بأن صوتها لن يُعيدها، بدأت بهمسها المُعتاد…
لَونُ شَعرِ جَارَتِنَا ناديا أَحمَر كَلَونِ الدَّم، يُغَطِّي بَقَايَا اليَاسَمِين.
تَضحَكَ.. تَضحَك مِلءَ قَلبِهَا الفَرِحِ.
تَقِفُ أَمَامَ مِرآتِها كَشَاهِدٍ يَعتَرِفُ أَمَامَ مَحكَمَةِ الإِعدَامِ، تقول:
سأَعتَرِفُ لَكِ بِشَيءٍ .. سَأَشِي لَكِ عليّ، أَنَا مَن ثَقَبتُ نَافِذَتِي، كان يُخيَّلُ إليَّ أني أراهُ… كغبيةٍ كنت أمارسُ دوري بسذاجةٍ يكون خلف النافذة وأنا أمامها وما يفصلنا ليس حدود، إنما عارضة خشب حاولتُ مرارًا، وبجهد مرير أن أثقبها ليأتيني منها، ولكن عبثًا ما أحاولُ.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة