(كرات الثلج) وسايكولوجية التواصل

علوان السلمان

السرد القصصي نشاط انساني يحقق موقفا تجاه قضايا الانسان بطاقة ايحائية ودلالية تشبع المشهد السردي الذي ينسجه منتج واع لواقعه المجتمعي بكل مكوناته بلغة موحية يغلب عليها الانزياح في التراكيب من خلال الايجاز الجملي والتكثيف الذي هو خلاصة مركزة للاحداث ..لتحقيق المتعة الجمالية والمنفعة الفكرية عبر التساؤلات والتأويلات..فضلا عن تحريك الساكن الوجودي للاشياء في مجال التجربة الابداعية..
وباستحضار المجموعة القصصية (كرات الثلج) بنصوصها السبعة عشر التي احتضنتها بياضات مائة واثنتين من الصفحات بحجم متوسط واسهمت دار الشؤون الثقافية في نشرها وانتشارها/2017.. كونها تجربة مجسدة للقضايا الاجتماعية والانسانية التي تحاكي الواقع وتضفي عليه ابعادا تأملية وجمالية تستدعي المستهلك(المتلقي) الى الخوض في غمار عوالمها المفعمة بالهم والاغتراب نتيجة واقع مأزوم..
(في الايام التي يتساقط فيها الثلج كانت اقدامها تنغرس في الثلج المتراكم فوق الارض..وهما يطوفان شوارع صوفيا..وحين يصيبهما الاعياء يهمس في اذنها نحن بحاجة الى مكان ندفىء فيه جسدينا..
وفي غرفتها يظل يتفرس بها عبر الظلام وهي تنضو عنها ثيابها الرطبة التي بللتها كرات الثلج التي كان يرميها نحوها فتصيبها مباشرة فيما تخفق هي باصابته بكراتها الثلجية وهما يتضاحكان..لقد أنسته محنته الشرقية وجحيمها منذ ان تعارفا لم يفترقا ابدا..أخذته الى بيتها..عطفت عليه..بل احبته..هو الهارب من جحيم بلاده وهمجية نظامها..) ص5 ـ ص6..
فالنص يعبر عن الذات والذات الاخر محتضنا فكرة ثنائية الوجود (هو/هي)..بكثافة درامية متوترة مع سيطرة المؤثرات الخارجية التي اسهمت في بلورة الفكرة والاستغراق في عوالمها عبر لغة تمتلك مؤثراتها وقدراتها التوصيلية ومضامينها النفسية والاجتماعية التي تتفاعل ومنظومة القيم الجمالية.. عبر حدثه المكثف لتحقيق الاثر الكلي بوحدة موضوعية لاتخلو من غرائبية تتناسب والموقف الفكري وانعكاساته الوجدانية..بما تمتلك من ادوات فنية وتكنيكية يوظفها السارد عبر تقنيات سردية تزاوج ما بين الحكائية والفنية لخلق عوالمه السردية..
(نهضت لا تتبع تعليمات (مرام) لكي اصل الى نزل (فردوس) وبدأت أقرأ اسماء اليافطات التي ذكرتها لي كعلامات دالة والمعلقة على واجهات البنايات..اعلانات آسيا سيل..محلات صافي لبيع قطع غيار المولدات الكهربائية..فودا فون للموبايل..محلات الاناقة لبيع الملابس الرجالية..مكتبة الثقافة..بسطات لبيع الادوات الرخيصة..وأخيرا قرأت عنواني الاثير مركونا في زاوية مدخل الشارع على لوحة معدنية:110 زقاق 9..سأعد خمسة منازل على يسار الزقاق حيث تسكن فردوس..وحال دخولي المنعطف انطفأ التيار الكهربائي وخمدت ضجة اصوات مكيفات الهواء المثبتة على شبابيك الدور..ليرتفع بعدها صخب المولدات الكهربائية الاهلية..لاجد نفسي في مواجهة المنزل الخامس..اطرق على خشب بابه القديم فيطل من شق الباب وجه امراة خمسينية ما زالت جميلة..انطلق بالتحية واطلق سؤالي الساذج:
ـ أهذا بيت فردوس؟
قدمت نفسي..ابتسمت هي..فتحت الباب وهي تعلن:
ـ اتصلت بي(مرام) واعلمتني بقدومك..) ص34ـ ص35
فالسارد يستخدم سايكولوجية التواصل في بناء نصه بوصفها(خطابا غنيا بالدلالة)لتحقيق الامتاع والاقناع في عوالم نصه الجامع ما بين الموقف السردي والايحاء النفسي من خلال توظيفه المفردة ذات الدلالة الجمالية التي تلامس ذاته المتوترة والمشحونة بفضائها التأملي المكتظ بالمشاهد المتوالدة التي تمازج ما بين التخييلي والحسي الواقعي لينتج موقفا..وهو يستعين بقدرته اللغوية ورؤيته المتصلة بطبيعة تكوينه الفكري والنفسي..
(أمضيت في ايران عشرين عاما..وحين سقط النظام عدت مع آلاف المهاجرين الى العراق..تنهد صاحبي وكأنه يحمل أثقالا على صدره ويرغب في ازاحتها..وواصل احتساء شرابه وهو يدخن..فسألته:
ـ ربما بقيت تحلم بـ (بروين) طيلة عقدين من الزمن بقائك في ايران..أدار وجهه ناحية المقهى التي بدت الآن شبه خالية وقال:
ـ كنت احلم بها كأمل مستحيل المنال (بسبب اختلاف ديانتهما) وهذا يجرنا لمحمود درويش وريتا اذ انهما لم يحققا منالهما بسبب البندقية)
وما زالت تعيش في ضميري ويبدو ان قدري ان امضي ما تبقى من عمري حارسا لمحطة القطار وحيدا بلا امراة..
وبدت المقهى الآن خالية من روادها حين ذهب الجميع الى منازلهم وخيم السكون والبرد تماما..نهضنا نحن حارسي المحطة واتجهنا نحو غرفتنا صامتين..في تلك الليلة الباردة اشعلت الفانوس وبقيت ساهرا حزينا فيما نام صديقي حارس المحطة المناوب فورا..لقد تخلص من احماله ولم يبق لديه سوى اطياف ثلاث نساء والدته وشقيقته وحبيبته يستحضرهن من تحت رفات الاعوام التي امضاها وحيدا وغريبا.) ص56 ـ ص57..
فالنص يحاول الانفتاح على عوالم متنافذة بمستويات متفاوتة يعتمدها المنتج(السارد) في بناء نصه ابتداء من الفكرة ومرورا باللغة وانتهاء بالمشاهد من خلال تصوير الاشياء والاحداث بطريقة تستفز ذهن المستهلك وتنبش خزانته الفكرية للتامل واستنطاق ما خلف الالفاظ..فضلا عن توظيفه لبعض التقنيات الفنية كالاسترجاع والاستباق والحوار بشقيه(الذاتي والموضوعي) والمكان البؤرة الثقافية المضافة بشقيه(المغلق والمفتوح) وفق اشتراطات فنية وموضوعية..
وبذلك قدم القاص نصوصا تتسم بالوعي الفكري لواقع مجتمعي ومعطيات الزمن السابحة داخل اطر دلالية..بسياق حسي ورؤية ابداعية متناغمة الرؤى..ابتداء من ايقونة العنوان النص الموازي الرامز المستل من عنوانات احد نصوص المجموعة بفونيميه الدالين على عنصر من عناصر التشكيل النصي..اضافة الى انه دلالة سيميائية متوهجة ونافذة رؤيوية مكتنزة بطاقة ايحائية تستدعي المستهلك للولوج الى عوالم النص وحل شفراته..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة