قصة المدينة التي ذهب مواطنوها الى صناديق الاقتراع لكي لا ينتخبوا أي أحد

الوباء الأبيض
آنا زاير*

النتائج التأريخية وإن لم تكن ثورية للانتخابات البرلمانية الأخيرة، لم تكن ممكنة مادام دستور العراق أو قوانينه الانتخابية لا تحتوي على الشرط الذي يقول، بأن الانتخابات تعد سارية إذا أدلى على سبيل المثال 51% من الناخبين بأصواتهم، في حين أن الناخبين كانوا فقط نحو 44.5 من المئة. هناك القليل من البلدان في العالم يعملون بمثل هذا الشرط.
في قصة جوزيه ساراموغو، نرى أن القارئ دعي ليفكر فيما يحدث في البلد، إذ 83% من الناخبين في العاصمة قرروا أن يدلوا بأصواتهم، لكنهم ألقوا بطاقات الاقتراع فارغة (بيضاء)، والبطاقة الفارغة (البيضاء) سارية المفعول، وتحسب ضمن الذين أدلوا بأصواتهم.
فالناخبون البيض «أصحاب البطاقات البيضاء» هم فقط الذين لم يختاروا أي حزب أو مرشح، هذه الأصوات البيضاء عادة ما تكون للبقية المتجاهلة: لا توجد دولة في العالم تقود فيها كتلة من الأصوات البيضاء الى صفوف من المقاعد فارغة في البرلمانات، أو المجالس المحلية، تعطى المقاعد ببساطة الى الأحزاب والسياسيين الذين صوّت الناس لهم، ووزعت تلك المقاعد طبقا لمشاركتهم في التصويت.
الأحزاب السياسية ليست غبية، ربما سيأتي اليوم الذي تكون فيه أغلبية المصوتين متعبة كالعادة من السياسات، وبمرور الوقت ربما تخسر الأحزاب قادتها الكاريزميين، أفكارهم وتطلعاتهم، وربما يخسرون حتى أغلب أعضائهم، ولكنهم كما نعرف، وهم أيضا يعرفون، لا يفقدون أبدا رغبتهم بامتلاك السلطة. وهذا هو السبب في أن أغلب البلدان لا توجد فيها متطلبات شرعية للحد الأدنى من إقبال الناخبين.
قبل الربيع العربي، الرئيس المصري حسني مبارك وحزبه الوطني الديمقراطي، لم يعيروا أي أهمية، كما حدث عندما أزعجتهم نسبة الـ 6% من المصوتين الذين أدلوا بأصواتهم في الانتخابات. في حين نظريا يمكنهم تغيير النظام ببساطة بالذهاب الى الاقتراع والتصويت لحزب مبارك.

الوباء الأبيض
إذا أدلى الناس وبنحوٍ واسع بأصوات بيضاء، فالرسالة لم تكن واضحة بنحو مباشر، وكون الرسالة غير واضحة بنحو مباشر، عندها لا يذهبون بنحو واسع الى محطات الاقتراع مطلقا (كما حدث في العراق في هذه السنة). من المحتمل أنهم رفضوا كل الأحزاب الرئيسة، ومن المحتمل أن الناخبين كانوا غير مقتنعين بالسياسات المحددة أو محبطين بنحو عام من السياسات الديمقراطية.
على أية حال شيء واحد أكيد: الاحتمال بأن 83 % من الناخبين في أي بلد سيدلون بأصوات بيضاء تقارب الصفر.
الإقبال الشديد للـ 83 % أو أكثر يحدث بتعاطف الناخبين مع من؟ ومن هو الذي يصوتون له؟ عندما تكون الرهانات عالية، أو عندما تنظم الأحزاب والحركات الحملات الانتخابية لأشهر إن لم تكن لسنين.
الناس في قصة (ساراماغو) كان لديهم القدرة على الاختيار بين حزب اليمين، وحزب الوسط، وحزب اليسار (الأسماء المملة غير ممكنة، نوع من الدعابات السياسية الخفية تكون موجودة في كل صفحة تقريباً).
الأول هو الحكم، والثاني هو المعارضة والثالث متواضع (ضئيل)، كما لو جمع فقط خمسة الى واحد بالمئة من الأصوات.
ما يحدث بعد الانتخابات في خيال (ساراماغو) الشيوعي الفوضوي، هو بالطبع وبشكل حتمي أن الحكومة تعتقد أن هناك مؤامرة، انقلاب منظمة سرية تعاملت برعب، ضربة قوية الى كل الأحزاب يسمونها «الوباء الأبيض»، كما لو أن الناخبين في العاصمة قد أصيبوا بنوع من الفيروسات، في آراء السياسة «الوطنية» فأن هذا الفيروس «مهاجم الديموقراطية»، يجب أن لا ينتشر الى أجزاء أخرى من البلد التي جرى فيها التصويت بنحو «طبيعي»، فتسحب الحكومة الشرطة والجيش والوزراء من العاصمة، وتغلق كل الطرق الى الخارج من قبل سيطرات عسكرية ولا يسمح لأي شخص بمغادرة المدينة، ولا حتى تلك العائلات التي تدعي أنها صوتت لحزب.

العثور على زعامة عصابة.
تعتقد الحكومة أن انسحاب الشرطة وكل مصادر السلطة سيجعل العاصمة في فوضى. لكن لا، فالجريمة لا تتصاعد، عندما تأمر الحكومة جامعي القمامة (الزبالين) بالاستمرار بالإضراب، تبدأ النساء بتنظيف الشوارع. طبعا الحكومة لا تستطيع أن تأمر بحصار حقيقي بالأسلوب القديم على المدينة، وتجويع الناخبين العنيدين حتى الموت، لكن ذلك لا يعني أن وزير الداخلية سيقف مكتوف الأيدي عن إرغامهم بالعودة الى العقل، هو سيعزف أوركسترا هجوم إرهابي على محطة المترو، 23 شخصا يتركون موتى.
«البيضاء» كما اسماها الناخبون بنحو سريع، يذهبون الى الشوارع للاحتجاج السلمي، ذلك لأنهم ليسوا حمقى ليعرفوا من أعطى الأوامر لتفجير المترو. الإعلام الخاضع للرقابة يصبح وبنحو هستيري تابعا للحكومة وهكذا دواليك.
ثم يأمر وزير الداخلية بإدخال فريق من ضباط الشرطة سرا الى المدينة، يطلب منهم جلب منظمي المؤامرة، والأدلة غير القابلة للدحض على تجريمهم برغم معرفتهم جيدا بأن ذلك غير موجود.
ولقطع القصة القصيرة المملوءة بالملاحظات السياسية الجميلة والإنسانية، والاستفهامات المضحكة بشدة، والحوارات اللطيفة. إن رجال الشرطة لا يجدون شيئاً، فقائد فريق الشرطة لا يتحمل الفكرة بأن الناس الأبرياء سيلقى عليهم القبض سرا، وإلقاء مسؤولية الجرائم على عاتقهم مع انهم لم يقترفوها. لكل ناخب الحق الشرعي بأن يدلي ببطاقة بيضاء، وإن لم يريدوا الاعلان عمن صوتوا له، فهذا حقهم، وليس دليلاً على أنهم كانوا جزءً من أي مؤامرة.
رئيس الشرطة، يعرف ذلك وسيضع نهاية مهمته المتواضعة، بأن يكتب رسالة الى صحيفة صغيرة يشرح فيها كل الحيل القذرة لوزير الداخلية المتعصب، وببعض الحيل الذكية، تستطيع الصحيفة أن تحرر الرسالة من الرقابة وتنشرها. وعندما تصادر كل نسخ الجريدة يقوم الشباب بنشر الرسالة بإلقاء النسخ من الشبابيك الى الشوارع.

القاتل:
حسنا، وبعد أكثر من 300 صفحة كان على «ساراماغو» أن ينهي الرواية. قام وزير الداخلية باغتيال رئيس الشرطة الشريف، فضلا عن المرأة التي التقطها الوزير لتستخدم كنعجة هاربة، كقائدة للمؤامرة (هي كشخصية محبوبة من روايته السابقة «العمة»).
يقوم رئيس الوزراء بإعدام وزير الداخلية عديم الأخلاق وتولي منصبه، ورئيس الوزراء كان قد تولى مناصب وزراء العدل والثقافة، الذين لم يوافقوا على سياسات الكابينة الحكومية والرئيس وأقيلوا من مناصبهم، إنه دكتاتور في طبعه.
إنها نهاية محبطة نوعا ما، ثمرة الخيال المتشائم، بالرغم من أن المدينة وتحضرها ما زالوا باقين بنحو جيد من دون حكومة في الصفحة الأخيرة.
لكني أرغب بمعرفة ماذا يفعل أصحاب البطاقات البيضاء والسياسيون لو استمرت القصة؟ هل يقود مثال هذه العاصمة الى تدخل أجنبي لاحتواء فايروس الوباء الأبيض، عندما تبدو الحكومة الوطنية عاجزة عن إنهاء التمرد السلمي؟ «ساراماغو» كان ينتقد دائماً صندوق النقد الدولي والاتحاد الأوروبي. هل سيقل دور الدولة بنحو كبير لأن المواطنين أظهروا بأنهم يستطيعون وبنحو جيد أن يهتموا بأنفسهم بطريقة متحضرة؟ يبدو أن «ساراماغو» يعتقد بأن هذا ممكن، لكن ليس اليوم ولا غداً، إنه نوع من الفوضى الواقعية.

احمي أو غادر:
واحد من الشعارات السياسية الفرنسية المرفوعة هذه الأيام في فرنسا، وتهدف الى الأحزاب التقليدية من اليمين واليسار، وهو «احمي أو غادر».
القدرة على توفير الحماية هي السبب القديم لوجود الدول، وهذا يعني السبب القديم الذي يجعل الناس أن ينشئوا دولا. في هذه الأيام غالبا ما تبدوا الأحزاب عاجزة عن الحماية ضد المافيات، ضد القرارات اللا ديموقراطية للمؤسسات مثل «IMF صندوق النقد الدولي».
إذا لم تستطع الدولة أن توفر الحماية ضد الفقر والجوع، وتهديدات التقدم بالعمر، والنوعية الرديئة للطعام، أو الطب المزيف، والثقافة (التربية) القذرة، أو الفساد المنتشر بنحو كبير. ربما لا يبدو هذا الشعار الفرنسي واقعيا أو براغماتيا، لكنه يحتوي على التحذيرات، تماما كما تفعل رواية ساراماغو. العنف القاتل ضد الناخبين، على الضد من حمايتهم، بالتأكيد سوف لا يساعد ذلك السياسيين على الاستمرار بأدوارهم.
يتوقف خيال ساراماغو عند نهاية مايمكن للناخبين والسياسيين أن يفعلوه، ما يمكنهم أن يخططوا في زماننا هذا أكثر مما نعرف، ويبدو أنه يعتقد بأن الكون لديه خططه المعنية به معنا (ربما هو مصاب بفكرة أن تطور الجنس البشري يسير باتجاه صحي واحد).
لا يشبه الكثير من الروائيين الآخرين الذين كتبوا أو يكتبون عن طرافة العلم السياسي، ساراماغو، الروائي الذي حصل على جائزة نوبل للآداب في 1998، يعرف العالم السياسي بدقة، لأنه شارك عدة مرات في الانتخابات في البرتغال والبرلمان الأوروبي.
لقد أصبح ولعدة سنين الرئيس الرسمي للمجلس البلدي في لشبونة، وشهد على ما يمكن للمواطن الصالح أن يفعله. في الحقيقة، فأن المدن والبلدات والقرى يتعلمون كيف يديروا شؤونهم بعد اختفاء الحكومات، وكيف يدخلون للتاريخ.
يذكّر ساراماغو القرّاء بما اسماه الكاتب الفرنسي ميخائيل رابوت– سارسي «الحقيقة داخل اليوتوبيا (المدينة الفاضلة)». كما اعتقد الناس المتحضرون بأن ما كان مستحيلاً أصبح واقعاً في أيامنا، والديمقراطية وما فيها من حقوق الإنسان تعود لذلك، والإسهام في إدارة الحياة اليومية. يجب علينا أن نتحمل الإحساس بالمسؤولية الشخصية لرفاهية الآخرين أيضا.
ملاحظة: في عدة دول هناك متطلبات للحد الأدنى من الناخبين الذين يدلون بأصواتهم في الاستفتاءات، ذلك لمنع الأقليات من تقديم قوانين وسياسات لا يريدها الأكثرية من الناخبين، أو الأغلبية البرلمانية السابقة، هذا نفسه التمسك بالحقيقة لإلغاء القوانين والسياسات عبر الاستفتاءات الشعبية، ولا أحد يريد أن تفعل الأقلية ذلك، وكالعادة بأغلب الدول في الأقل 40% من الناخبين عليهم أن يُظهروا، وإلا فإن نتائج الاستفتاء تكون باطلة. في الاستفتاءات، الأصوات البيضاء (البطاقات الفارغة) تحسب على الذين أدلوا بأصواتهم.

• ترجمه وتحرير طالب الحسني
• انا زاير : كاتبة من أسرة الصباح الجديد

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة