الثيمة والانفتاح الدلالي للنص
غسان محمد
تعجل الموظف الأصلع السمين في قطف زهرة قبل أوانها من حديقة دائرته؛ آهاتها أقضت مضجع صديقها، الصباح الذي تحامل على حزنه ولاذ بالصمت، ليس بإمكانه انقاذ صديقته الصغيرة، قاومت نهايتها بعناد الأطفال من دون جدوى، صويحباتها أقمن العزاء على عجالة؛ بعد أن قذف بها الموظف إلى الحديقة من نافذة حجرته عند انتصاف النهار؛ وقطف صغيرة جديدة ..
مما حفزني لكتابة هذه القراءة لقصة (عزاء للورد) للقاص د. كريم صبح ؛ فعلى الرغم من سلاسة سردها؛ ووضوح ثيمتها في أبعادها وطرحها ؛ كذلك في وقع أحداثها التي وثقها القاص بالزمانكية؛ حيث وقت عملية قطف الزهرة صباحا؛ ورميها عند الظهيرة؛ كل ذلك أنصب بمكان واحد هو حديقة دائرة ذلك الموظف؛ هو إنها جاءت بأسلوب العمق الرمز {الدلالي} المعبر؛ كذلك منحنا القاص نسيجا متماسكا في قالب فكرة نصه إنسانيا؛ إلا أنها افتقدت بعض الشيء لمفردات لها عمقها الجمالي الدلالي لمجمل أحداثها.
أهمية العنوان وتأثيره
بدءا فقد وفق القاص بعنونة قصته، ليغرز نبتة زكية فواحة بعطرها في حديقة سرده؛ كي يجذب المتلقي ويجعله يتمعن بمقصدية معنى العنونة من حيث الهاجس الفكري لدى القاص؛ وإلا لماذا هذه العنونة الرمزية العميقة بالذات؟ .
لقد لمست تواجد الحس المرهف لدى السارد لمنحه القيمة الحضورية للورد في حياة الإنسان بشكل خاص؛ وبالطبيعة بشكل عام؛ ذلك من خلال وضوح مفهوم ثيمته للنص وما تلاه من سرد؛ فهو قد وهب الورد قيمة عليا في خلقها كنبات؛ ومكانة وجدانية لدى الإنسان؛ كيف لا وهي سيدة الجمال بين عموم النباتات في الطبيعة؛ ورمزا للحب والسلام؛ وللمشاعر العاطفية؛ ورقي الذائقة في تبادل الاحترام بين الناس؛ ويكفي للعنونة أن تتبلور لتكتسب جنسا أدبيا بحد ذاته فتصبح قصة ومضة لو أضيفت لها بعض الكلمات المتجانسة القليلة مع سابقاتها؛ لقد احتوت عنونة القصة العمق الفلسفي والإنساني في وصفها التعبيري المعنوي؛ إذ وفق القاص تماما باختياره الذائق لهذه العنونة لتصبح مفتاحا لجمالية قصته؛ فكاتبنا كريم صبح عرف كيف يمتطي صهوة الحداثة في عنونته لقصته؛ وبذلك عزف عن الابتعاد في كلاسيكية العنونة للنصوص الأدبية؛ ليمنح المتلقي بصمته في شاعريته لمكانة الورد في حياتنا من حيث حقها في العيش كما هو الإنسان؛ فلم تأت العنونة هنا محض فكرة جرداء أو شكلية المعنى؛ بل جاءت مقصودة لديه وذي معنى بليغ؛ فقد برع في اختياره للتسمية حين ألبس قصته حلة زاهية من ثياب العنونة؛ إذ رسم السارد رمزا ظاهرا في معالمه لخريطة منهجية تعبيره؛ فمثلما الإنسان حين يتوفاه الله يقام له مجلس عزاء؛ فللورد أيضا الأحقية بقيام مجلس عزاء له عندما يقطف من أغصانه خصوصا قبل أوان نضوجه.
تساؤلات عند المتلقي
لو تمعنا في قراءة مستهل القصة؛ أو{ العتبة } كما يطلق عليها في تسميتها الأدبية لوجدنا بأن كريم صبح قد تعمد ببدء قصته بمفردة {تعجل}؛ ومن المعلوم لدينا بأن الإنسان بحالات العجالة من أمره يكون هناك سبب اضطراري في تعجله بقيامه بتصرف ما؛ ذلك أما بسبب ضيق في وقته؛ أو لشدة حرصه على موعد مهم عنده؛ أما أن يتعجل إنسان من أجل قطف زهرة خصوصا وهي صغيرة في نضوجها فهذه حالة ليست بالهينة كما دونها القاص في بدء مستهل نصه {تعجل الموظف الأصلع السمين في قطف زهرة قبل أوانها}؛ ومن المؤكد بأن التساؤلات ستتنوع لدى بعض القراء المثقفين؛ إذ المتلقي الفطن في تبحره لقراءته لها سيتساءل {لماذا هذا التعجل؟}؛ لقد لصق كاتبنا المبدع كريم صبح صفات تفتقر للذائقة وللمبدأ الإنساني في معانيها بشخصية بطل قصته والتي تتناسب مع نيات فعلته؛ برغم أنه لم يفصح عنها حرفيا من خلال سرده؛ إلا أنه أعلنها من خلال أحداث سلوكية ذلك الأصلع السمين تجاه تلك الزهرة التي لا حول ولا قوة لها عند قطفها لينتشي هو ولتتعذب قتيلته؛ فمن يقطف زهرة قبل نضوجها من أغصان شجرتها كمن يسلب {يخطف} بنتا قاصرا من أحضان أمها ولم تبلغ سن الرشد بعد؛ فقد تجاوز بطل قصته على قوانين الطبيعة والمبادئ الإنسانية.
يداهمني سؤال يطرح نفسه: {لماذا يا ترى منح القاص بطل قصته ثلاث صفات {سمات} في آن واحد؛ الموظف والأصلع والسمين ؟ ولم يكتف بصفة واحدة في الوصف مثلا الموظف؟}؛ أكانت من محض تخيله حين ذكرها؛ أم إنها واقعة تجردت من الخيال كي يوظفها في كتابته بصيغتها البهية.
صياغة النص الابداعي
لم تخلُ فكرة القصة من صفات وجدانية في وصف القاص لأحداث معينة ليعبر عنها تارة هنا وتارة هناك بوصفه الرصين فنيا؛ حيث جمالية كتابة أي نص أدبي لا تقتصر فقط على ثيمتها والعنونة والمستهل والحبكة والسرد والخاتمة؛ يضاف إليها لغة رصينة؛ فهي أيضا تحتاج لصياغة إبداعية لصناعة فنية أدبية؛ شريطة أن لا تخلو من الشعرية في الطرح كما في هذه العبارة الجميلة {آهاتها أقضت مضجع صديقها الصباح الذي تحامل على حزنه ولاذ بالصمت}؛ حقا إنه وصف رقيق ومتين في معانيه؛ ويكاد يكون الوصف هنا أقرب إلى الفلسفي والوجداني؛ وحبذا لو أنهى القاص عبارته تلك بمفردة {المبرح} لأضاف لوصفه الجميل درجات أكثر من الجمالية؛ ومثلما لاذ صديقها الصباح بالصمت المبرح ولم يستطع أن ينقذ صديقته الزهرة الصغيرة؛ فلو دققنا جيدا وبأسلوب التفكيك الوصفي لهذه العبارة وتبقرنا في تحليلها؛ لجاز لنا أن نقول بأنه مثلما لكل دولة قوانينها وأنظمتها فللطبيعة أيضا قوانينها وأنظمتها في حماية النباتات من قبل الإنسان؛ لكنه وللأسف فذلك غير معمول فيه في أغلب مجتمعنا الشرقي؛ حيث لا حماية ولا رعاية؛ وبالتالي لا محاسبة ولا رادع لكل من يعبث بجمال الطبيعة وثروتها.
مثلما ذهب الموظف في عجالته {تعجله} لقطف الزهرة الصغيرة؛ ذهبن صويحباتها ليقمن العزاء لها وهن على عجالة أيضا؛ ومن هنا نجد بأنه قد تخللت العبارتين قاسم مشترك بصفة واحدة لحدثين متناقضين في المغزى لمعنى واحد هو{العجالة}؛ فهل يا ترى تقصد الكاتب من خلال سرد أحداث قصته بأن يجعل من أيقونة مفردته {عجالة} ليتقاسمها حدثان متباينين؟ أرى أنها قد أضافت من زاوية أخرى إسقاطة جديدة في صياغة القصة؛ لكنني في الوقت ذاته أشير على القاص بأنه كان من الأجدر لو وضع عبارته هذه {صويحباتها أقمن لها العزاء على عجالة}؛ في نهاية قصته لتأخذ مكانتها في السرد كخاتمة للقصة حيث تتناسب مع ثيمتها في الحدث الأساسي لقصته؛ ولكن بعد أن تأتي بصيغة جديدة مقاربة لصيغتها القديمة هكذا {على عجالة أقمن صويحباتها مجلس عزاء لها} .
لقد تيقنت بأن محور ثيمة القصة ومن خلال دلالاتها في قطف تلك الزهرة وهي في مقتبل عمرها ؛ فأعتبره طرح في أسلوب حصيف من كاتب شفاف في ملكته الأدبية؛ ليستغل مساحة شاسعة للمعنى الرمزي لمحور الثيمة؛ ومن الصواب تشبيه تلك الزهرة الصغيرة بالبنت القاصر التي لم تبلغ سن الرشد بعد في حالة زواجها؛ فهي تعتبر حالة قسرية في عرفنا الاجتماعي الحضاري؛ ويجدر بي أن أشير إلى أن محور حوادث القصة لها ربط وثيق بقرار أراد البرلمان العراقي التصويت عليه؛ إلا وهو تعديل قانون الأحوال الشخصية في البلاد بتأريخ 30 كانون الأول لعام 2017؛ وقد عبر القاص من خلال مضمون فكرة قصته عن سخطه ورفضه على ذلك القرار الجائر والذي لم ير النور؛ كي يمنحنا المعرفة في درجات وعيه الوطني والثقافي والإنساني عبر دلالات منهجية أفكاره الباسقة التي وظفها في قصته الجميلة {عزاء للورد}.