إياكم والمثقف الزعلان

لا حدود للدور الذي لعبه المثقفون (الانتلجينسيا) في رسم مصائر المجتمعات والدول الحديثة، ومن دون غبداعاتهم ومواقفهم الواعية والمسؤولة والشجاعة، ما كان بمقدور سلالات بني آدم الارتقاء لكل هذه الذرى في شتى مجالات الحياة المادية والقيمية. هذا ما جرى لكثير من الأمم برفقة هذه المنظومة المعطاء (الثقافة) والشبيهة بشجرة السنديان الراسخة الحلقات والبنيان. أما ما يحدث لدينا برفقة ما يفترض أنهم من (الانتلجينسيا) فنجده مغايرا تماماً لحصاده مع الأمم التي أشرنا اليها؛ ولن نرجع بكم الى محطات بعيدة من “مآثرهم” بل سنكتفي بتسليط الضوء على أدوار غير القليل من المنتسبين اليها، ونوع خطاباتهم وإبداعاتهم الفكرية والنظرية، حول ما يحدث حاليا من احتجاجات وتظاهرات في مدن وسط وجنوب العراق. من دون أدنى التفاتة الى كثبان قنوطهم ويأسهم الذي سطروه حول المجتمع العراقي ونوع همومه واهتماماته، وطبيعة القوى المهيمنة على قراره وفزعاته وذائقته، نجدهم اليوم (وغير القليل منهم من منصات بلدانهم البديلة) يدعون ويشيمون بالجموع الغاضبة كي يصعدوا الى اعنان السماء بوصفهم صانعوا الفردوس المفقود (العراق الجديد) على أنقاض النظام السياسي الحالي (بعضهم دعى الى سيسي عراقي)، هكذا ومن دون أدنى وجع من عقل أو ضمير؛ يدفعون بالوطن والناس الى مصائر مجهولة، وكأن هذا الوطن المنكوب منذور للهلوسات والسيناريوهات الكارثية. كل من يعرف حال وأحوال العراق الراهنة، لن يجد صعوبة في التعرف على نوع الهموم والعقائد المهيمنة، ونوع وحجم الأسلحة والثكنات المستلقية على تضاريسه، وهذا بحد ذاته يردع لا من يدعي ضلوعه بالفكر والثقافة والسياسة عن مثل تلك الأعمال المغامرة والمتهورة وحسب، بل هي واضحة وجلية حتى لمن لم تمنحه الأقدار القدرة على “فك الحرف” من الذين منحتهم الحياة أسرارها وثقافتها وبديهياتها، التي عجز “مثقفونا” عن فك شفرتها وطلاسمها..؟!
مثل هذا التخبط والتهور والضياع واعتماد تقنية الدقلات والقفزات الكنغرية، ليست غريبة عن شمائل هذا النوع من “المثقفين والإعلاميين والكتاب و…” وهم لعلة وبصمة وجفصة في أغوارهم، لا يطيقون فكاكاً عن مثل هذه السيرة والسلوك، حيث يصرون على وضع تمنياتهم ورغباتهم بديلاً عن واقع موضوعي وإمكانات واقعية لطالما ذكرتنا بما قاله الشاعر:
(كناطح صخرة يوماً ليوهنها/ فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل).
ان الطبقة السياسية الحاكمة حالياً لا تحتاج لمن يزيح المساحيق عن ملامحها البشعة، وعن فشلها وفسادها، فحيتانها وأبرز ممثليها يعترفون بذلك (خطاب السيد هادي العامري الأخير على سبيل المثال لا الحصر) لذلك فالمشكلة ليست باكتشاف وجود الفساد وشبكاته ورعاته؛ بل هي تكمن في قدرتنا على التغيير وصناعة البدائل الممكنة لا الكبسولات المقذوفة لنا من الصومعات المخملية. ان محنة المحتجون الحقيقيون وسوادهم الأعظم من الشباب العاطلين عن العمل؛ انهم يجدون أنفسهم وسط دائرة من الغضب والعجز عن إيجاد حلول واقعية لمطالبهم البسيطة والأولية “غضب ايجيبهم وغضب ايوديهم” من دون التمكن من فك طلاسم هذه المحنة المزمنة. ووظيفة المثقف الحقيقي تتجلى بمد يد المعرفة والوعي لهذه القطاعات الواسعة، كي تتعاطي بحكمة وصبر مع ما يحيط بها من مخاطر وتحديات في كفاحها من أجل نيل حقوقها العادلة والمشروعة، لا دفعها للانضمام الى رصيد التضحيات المجانية التي اختصتنا بها الأقدار من دون خلق الله..
جمال جصاني

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة