يوسف عبود جويعد
تقدم لنا الروائية نادية الابرو في روايتها ( أرواح من رمال ) , احداث كبيرة ومتشعبة وواسعة , لوقائع مؤلمة المت بأسرة , هي ( وفية الام ) و ( كاظم ) الابن ( وعبد الجبار ) الزوج الثاني للام , وهي متعددة الاصوات , حيث أن الفصل الاول يكون السارد فيه الابن ( كاظم) , بينما تتولى الام سرد احداث الفصل الثاني , ويقوم ( عبد الجبار) بمهمة السرد وقيادة دفة الاحداث في الفصل الثالث والاخير , تبدو لنا من خلال متابعة الاحداث , أن النسق الفني الاساس الذي تنطلق منه , بقية الاحداث وتتفرع وتمتد ليست افقياً وعمودياً حسب , بل أنه يتوسع أكثر ليمتد شرق وغرب وجنوب وشمال الاحداث , حتى غدا مسك نسيج المبنى السردي , وتدوينه أمر يتطلب من الروائية مقدرة وتمكن تام من اجل الالمام بالتفاصيل الدقيقة , بين (الفلاش باك) الرجوع , والعودة ثانية لتكملة مسيرة العملية السردية وفق سياقها الفني المطلوب , هو ما حدث للام وحكايتها , التي تشبه الى حد بعيد , حلم مرعب لم تستطيع التخلص من أثاره , وسبب لها الكثير من الانكسارات النفسية , واحباطات روحية ظلت غائرة في اعماقها , وظلت تعيشها حتى وهي راقدة في المشفى , وهذا الحدث الاساس هو الكارثة الكبيرة , التي أحاقت بأبناء هذا البلد , إثر المقاومة المستميتة من أجل الخلاص , من حكم دكتاتوري ظالم , إذ أن هذه الام كانت معتقلة في سجن للنساء في صحراء السماوة , مع نسوة كثيرات ,إتهمن بتهم مختلفة تصب في نهايتها الى معادات ذلك النظام , وتصل الاوامر الى هذا المعتقل , بإعدام تلك النسوة رمياً بالرصاص , ودفنهن في حفرة في هذه الصحراء هن وإسرهن , ومن هنا نعيش البؤرة الرئيسية التي سوف نرحل معها لإستكشاف حياة المعتقلين , وما هو مصير من كان يواجه هذا الطاغوت , وينبري كاظم السارد الاول , لتكون مهمته مرافقتنا , من أجل أن يبدأ معنا تلك الرحلة وهو يقود دفة الاحداث ( رغم الحر وصراخ الأطفال العطشى أخلد الى النوم أغلب من كان في الشاحنة المظلمة , إلا من زاوية صغيرة في كوة السقف يتسرب منها قليل من ضوء القمر الضال طريقه …الطريق صامت إلا من هدير الشاحنات الاربع الذي توقف فجأة بعد أن ظننا أن ليس من نهاية لهذا الطريق … فتحت أبواب الشاحنات كجهنم … نزلنا الى العراء دفعة واحدة … الهواء حار ثقيل بالغبار … وجوهنا مطفأة .. أمي تهمس لي أمسك بيدي لا تحاول الإفلات … زينب ترتجف ولم تطلق سراح كم قميص ابي بل إزدادت به تعلقاً وكأنها تدرك … الوجوه المطفأة ترتعش تحت ضوء القمر الكسول تتساءل .. أين نحن .. واللا شيء يحيط بنا يثير الذعر في القلوب .. النهاية .. واين النهاية ؟…) وهكذا ترتكب هذه المجزرة , وتنطلق فوهات الظلم ليتساقطوا وسط هذه الحفرة , بين مضمخ بجراحه ولا زال يأن , وبين فاقداً للوعي , وبين جثة هامدة , ولكن القدر كان مع الام إذ أنها بفضل احدهم , تستطيع أن تتخلص من هذه الكارثة , وتخرج من تلك الحفرة ممسكة بيد إبنها كاظم , تاركة رضيعها ماجد تحت التراب , ونستمر في سبر أغوار احداث هذا النص , ويجتاح هذه الاحداث صوت المرأة الناعم الحنين , ليغطي مسيرة العملية الحكائية , صوت انثوي , هو صوت الروائية التي مإستطاعت التخلص منه , رغم أن من يقود دفة الاحداث كاظم , أي يجب أن يكون السرد ذكورياً خشناً نحسه ينطلق من رجل , الا أن هذا الاجتياح جاء ليضيف الى الاحداث حس متأسي حزين ومتأثرومؤثر , والتصاق المتلقي بتلك الوقائع , مكملاً تلك اللوحة بما تقتضيه الضرورات الفنية , (اوشكنا على الموت لمسنا أعتابه مرات دون أن …حتى الموت أصبح صعب المنال عندما طلبته …عجزت عن الموت حين … إنهال التراب فغطى الاجساد المضرجة بالدم …اصوات عواء بعيدة ستجذبها رائحة الدم عما قريب …برودة … برودة وحشية تنهش بمخالبها الروح , تدوس على الاجساد تشعر بحرارتها , تأوهات مبحوحة تتلاشى , وأنين لا يسعفه إلا التراب … ) ص 28
ويتضح لنا من خلال المتابعة , أن كل من الساردين الثلاثة يقود دفة الاحداث وفق رؤيته وطبيعة حياته , وما حدث فيها , مستنداً الى القاعدة الاساسية , المحور الاول , الذي إنطلقت منه فروع هذه الاحداث , وهو حكاية الام , ودورها ومكانتها في حياته , فيصف لنا كاظم الابن مكانة الام في حياته , وتفاصيل كبيرة وواسعة كانت الام , العنصر الرئيس فيها , كما نمر معه بالعلاقات العاطفية التي نمت بينه وبين طالبة في الجامعة , والاحباطات التي تسبب بها زوج امه عبد الجبار , وحالة الانتحار , والكثير من الاحداث , التي سوف اتركها للمتلقي يتمتع بمتابعتها ثم تنبري الام , لتستلم زمام إدارة دفة الاحداث في الفصل الثاني , فتقدم لنا حكايتها , وهي بؤرة هذا النص , واساس الإنطلاق , فنعيش في دهاليز ذاكرتها مع زواجها الاول , ومع تربية كاظم وابنتها زينب , ومع زوجها جواد , وعند هروبها من تلك الحفرة ,تفاجأ بعبد الجبار في مركبته وسط تلك الصحراء , وكأنه جاء لينقذها , ونعيش مع حياتها في حلوها ومرها وآثامها وخطياها, ونكتشف من خلال تلك المتابعة أن هذا النص لايقبل أن يكون له حالة فنية تتطلب متابعة الاحداث وفق نموها حسب سياقها الفني المطلوب , والمتداول في أغلب الروايات , كون كل فصل من تلك الفصول رواية قائمة بحد ذاتها , تتطلب الرجوع ونقل الاحداث ,وكل من زاوية النظر التي يراها , وحسب التفاصيل التي عاشها ضمن حياة الام , لذلك فإن الايقاع كان مختلف , ولا يأخذ إنسيابيته المطلوبة نحو النمو والتصاعد , حركة طبيعية لإحداث روائية تسير بإنتظام متنام , والسبب في ذلك أن الروائية عمدت أن يكون كل شخص من شخوص هذه الرواية , والذين يقومون بسرد الاحداث , أن يقدم حكايته دفعة واحدة ودون إنقطاع حتى تنتهي مهمته تماماً , وهذا الاسلوب أخل في الإيقاع المنتظم الذي تتطلبه العملية السردية , إذ أن من الضروري أن يكون لكل نص روائي إيقاع إنسيابي منتظم , ويسير نحو الصعود بشكل متسلسل , التعريف , الحبكة , التأزم , الانفراج , في هذه الرواية نكتشف أن لكل سارد أدواته السردية المنتظمة , والتي بدورها تقدم لنا سياق فني متكامل من تلك السياقات الفنية التي يتطلبها فن صناعة الرواية , ويكون الإيقاع والانسيابية وحركة العملية السردية تدخل ضمن كل فصل من فصول الرواية ,ولكننا سوف نكتشف في نهاية المطاف , أن هذه ما هي الا سواقي صغيرة تصب في الرافد الرئيس , وتنتظم لدينا الصورة الواضحة , وسياقاتها الفنية , وإيقاعاتها المنتظمة , وحركتها المرتبة , وهكذا فإننا سوف نكتشف أن عبد الجبار الذي اوكلت له مهمة السرد في الفصل الثالث , يقدم لنا الاحداث من زاوية نظر كما يراها هو , ولكن التداخل الذي حصل في رفد الاحداث لكل الساردين , كان للام الدور الاول , وهي بطلة كل الاحداث , وهي الجذر الاساس , الذي منح لبقية الفروع الحيوية والحياة , وجعلها تطفو على واقع الاحداث , ورغم إحساسنا وحاجتنا الملحة بضم الاحداث بسياق واحد متصل , يفضي بنا الى النهاية , الا أن الروائية عمدت ان تجعل من هذا النص , نمط جديد , وسوف نكتشف أيضاً بأننا بحاجة لهؤلاءالساردين أن يدلي كل واحد بدلوه من اجل اكتمال خيوط الاحداث, لذا فأن متابعتها تحتاج الى تأن وصبر , وسرعان ما تظهر لك كل التفاصيل لتلم بكل اطراف الاحداث , فتكتشف منها الخطابات المتعددة , الخطاب السياسي , الخطاب الاجتماعي , الخطاب الثقافي , الخطاب الادبي , وتكتشف ايضاً الانساق الثقافية المضمرة , بالرغم من طغيان صوت الروائية وبصمتها واسقاطاتها داخل النص, والذي جاء منسجماً ومتلائماً مع مسار البناء النصي , ومكملاً لجمالية السرد
رواية ( أرواح من رمال ) للروائية نادية الابرو … عمل روائي كبير , ينبأ بدخول روائية الى عالم السرد بخطوات واثقة , وتؤكد تمكنها في تقديم اعمال تستحق الاهتمام .