أماندس أونج
في منطقة هادئة مليئة بالأشجار على بُعد أقل من ساعة بالسيارة من العاصمة الرواندية كيغالي، يطغى هدوء مجتمع مبيو على الماضي المظلم والصدمة التي مرَّ بها سكان المنطقة. تربط ليورانسيا نايوجيرا وجارها تاسيان نكيندي صداقة متينة، ولكن قبل 22 عاماً، في ذروة الإبادة الجماعية في رواندا، قتل نكيندي تقريباً كل عائلة نايوجيرا وتركها وإخوتها معرضين للموت. يقول نكيندي: “أنا ممتن جداً لها، فمنذ أن راسلتها من السجن، معترفاً بجرائمي ومطالباً الصفح منها، لم تدعوني أبداً بالقاتل، والآن غالباً ما أقوم بترك أطفالي معها حينما يكون لدي عمل بعيد عن القرية، لقد قامت بإخلاء سبيلي”.
تعيش 54 أسرة في قرية مبيو، وهي إحدى القرى الست التي أنشئت في المناطق الريفية في رواندا من قبل منظمة مسيحية غير ربحية تهدف إلى معالجة الجروح التي تسببت بها الأعمال الوحشية في التسعينيات. تم إطلاق هذا المشروع من قبل منظمة غير حكومية محلية تدعى سجن زمالة رواندا -PFR-، التي تساعد الناس والأسر المحتاجة للمسكن بغض النظر عما قاموا به خلال الإبادة الجماعية. تسعى منظمة (PFR) إلى الجمع بين الناجين وأولئك الذين كان لهم دور في الإبادة الجماعية. انتقلت عائلة نايوجيرا إلى القرية أولاً، ثم انضم نكيندي لهم بعد إطلاق سراحه من السجن.
يعيش الآن ما يقرب من 3000 ضحية وجاني في قرى المصالحة الست، ويعزى نجاح (PFR) إلى تركيزها على المغفرة والمسامحة.
وبغض النظر عن الحضور في مناقشات جماعية حول حل النزاعات، يقوم القرويون برعاية الماشية معاً، وزراعة محاصيل الذرة والمنيهوت بشكل تعاوني، فضلاً عن امتلاكهم حساباً مصرفياً مشتركاً لدفع تكاليف التأمين الصحي الخاصة بهم. وتضيف نايوجيرا: “نحن متحفزون لأننا نعمل في هذا المكان بأنفسنا، فلا وجود للجنود أو الحكومة”.
بعد اغتيال الرئيس الرواندي آنذاك جوفينال هابياريمانا -وهو من الهوتو- في عام 1994، قتل على مدار 100 يوم أكثر من 800،000 من التوتسي بشكل منتظم، جنباً إلى جنب مع الهوتو الذين رفضوا المشاركة في القتل. في السنوات التي تلت الإبادة الجماعية، وجد العديد من الروانديين أنفسهم يكافحون؛ من أجل التعامل ليس فقط مع الصدمات الهائلة التي تعرضوا لها ولكن أيضاً مع المشكلات العملية، مثل أين يجب عليهم العيش؟. يقول مدير الاتصالات في )PFR( ألكسندر جوما: “لقد كانت مأساة للجميع، سواء أكنت من الهوتو أم التوتسي، وإذا كنت من الذين شاركوا بقتل الناس وسجنوا، فحين خروجك ستجد أن منزلك قد دمر أو تم الاستيلاء عليه، وإذا كنت أحد الناجين من الإبادة الجماعية، فإن جميع أفراد عائلتك قد ماتوا، ولم يعد لديك أي مكان لتذهب إليه”. ويرى جوما أن القرى تختلف عن أي مبادرة أخرى تهدف إلى إعادة البناء الوطني؛ لأنها مستمرة ومستدامة.
تم تنفيذ نظام غاشاشا في رواندا، الذي يتكون من المحاكم التي يديرها المواطنون، لأول مرة في عام 2001، وساعد هذا النظام جزئياً في تسهيل التواصل بين الجناة والناجين كخطوة أولى في مجال الوصول إلى العدالة الانتقالية، لكن جوما يعتقد أن المصالحة عملية طويلة وصعبة وتتطلب كثيراً من الجهد.
وتابع القول: “إن الاعتذار والغفران شيء واحد، ولكن الناس ما يزالون يتجنبون بعضهم بعضاً حينما ينتقلون إلى أحيائهم القديمة، وإذا ما أرادت رواندا الشفاء، فإن على الناس مواجهة مشاعرهم العميقة كل يوم حتى لا تطفو المعاناة والغضب إلى السطح مرة أخرى”. وقد ساعدت قرى المصالحة أيضاً من التخفيف من بعض الضغط على السجون في رواندا التي ازدحمت بشدة أعقاب الإبادة الجماعية. في بداية الألفية الجديدة، تم سن قوانين جديدة من حكومة الرئيس بول كاغامي تسمح بأن يتم الإفراج عن العديد ممن يسمون بالجزارين من السجون إذا ما قاموا بالاتصال بالضحايا الذين بقوا على قيد الحياة، وأعلنوا توبتهم، كان نكيندي أحد هؤلاء السجناء، واختار الانتقال للعيش في قرية المصالحة بعد اعترافه بما قام به. في مبيو لا يخجل المقيمون بالاعتراف بوضعهم كونهم “الجناة” أو “المجني عليهم”.
يقول سيلاس أويسيجاميورمي -الذي قُتِلَ أبوه من قبل مقيم آخر في مبيو-: “إن الإبادة الجماعية شيء من المستحيل على أي شخص أن يستوعبها عقلياً ما لم يكن قد مرَّ بها بنفسه، علينا أن نتذكر الأدوار المحددة التي أديناها عام 1994، ولكن التذكر لا يؤدي إلى الغضب، لكنه يقوينا”.
في العام الماضي، نشرت لجنة الوحدة والمصالحة الوطنية استقصاءً يبين أن ما يصل إلى 92.5٪ من الروانديين يشعرون أنه قد تم تحقيق المصالحة، وقد حققت رواندا العديد من الإنجازات الرائعة الأخرى، بما في ذلك أعلى نسبة تمثيل للمرأة في البرلمان.
ومع ذلك، فإن العديد مقتنعون أنه يتعيّن القيام بالمزيد، وتقول العاملة الاجتماعية روبن كانيسيجيا: “أعتقد أننا على ما يرام، ولكن ما تزال هناك مشكلات متبقية قد تزداد سوءاً إذا ما سمحنا لها بأن تتفاقم، فغالباً ما يكون أبناء الأسرى عرضة للمخاطر؛ لأن آباءهم محكوم عليهم لفترات طويلة؛ مما يعرضهم للإصابة بالاستياء لعدم فهمم للأخطاء التي ارتكبها أباؤهم؛ لذلك نراهم يتوجهون إلى الجريمة، فلا بد من القيام بحمايتهم وتثقيفهم”.
تميل منسقة برنامج بناء السلام في منظمة غير حكومية محلية تدعى (لا لمرة أخرى يا روندا) فلورنسا باتوني إلى الموافقة على أن المشاريع التي تستهدف الشباب مهمة، إذ تقول: “إذا كان هناك شخص قتلت كل عائلته من قبل جيرانه، فمن البديهي أن تكون هناك أزمة ثقة يصعب التخلص منها، ففي يومنا هذا، لا يزال هناك من ينكر الإبادة الجماعية من الذين يعيشون بيننا، ومن الصعب تقدير أعدادهم، ويكاد يكون من المستحيل الوصول إليهم لتغيير وجهات نظرهم من دون التعرف عليهم”. تعتقد باتوني أن الندوات والمناقشات غير الرسمية للشباب في كل من رواندا والدول المجاورة -بوروندي، وأوغندا، وجمهورية الكونغو الديمقراطية- ستساعد على حمايتهم من عودة أيديولوجية الإبادة الجماعية.يقول منتقدو نظام كاغامي أيضاً إن الانتعاش الذي حدث بعد الإبادة الجماعية كان عملية مصطنعة إلى حد كبير؛ بسبب التنظيم الدقيق لسياسة المصالحة الحكومية التي تأتي في شكل برامج المشاركة مثل أمغندا، وهو حدث نظافة عام يجري في يوم السبت الأخير من كل شهر.
على الرغم من أن الهدف هو إخراج البلد بأكملها من المشكلات بغض النظر عن الانقسامات العرقية، إلا أن هناك الذين يتساءلون عن الكيفية التي ستساعد فيها هذه البرامج الإلزامية في حل المشكلات الأكثر إلحاحا في المجتمعات، مثل اضطراب ما بعد الصدمة الذي يواجهه الناجون.
لكن سكان مبيو لديهم رأي أخر، إذ يقول أليوسا ميتريبامبي: “لقد كان الحكم السيئ هو الذي زرع بذور الشقاق في عام 1994، ولكن الحكم الرشيد أيضاً هو الذي يغيّر الأمور، وفي نهاية اليوم، ستساعد الإرادة السياسية على حدوث التغيير، ولكن العاتق يقع علينا نحن الشعب الذي تأثّر عميقاً بسبب الإبادة الجماعية؛ لذلك يجب أن يكون لنا دور في تغيير الأمور نحو الأفضل”. ولا عجب إذا كانت المقاعد تحت الأشجار في مبيو تمثل بقعة شعبية للاختلاط، وأنها تشكل مجلساً “للعدالة بين العشب”.
حينما سألت نايوجيرا عما إذا كانت ما تزال تحمل ضغينة تجاه نكيندي، ردت قائلة: “لقد مررت بالعديد من الأوقات الصعبة، لقد شربت من بركة من المياه على جانب الطريق بينما كنت أحاول الفرار إلى بوروندي، لقد فقدت عائلتي، لقد عشت في خوف من أن الذين فعلوا هذا بي سيعودون للانتقام بعد إطلاق سراحهم من السجن، لقد عشت في حزن لفترة طويلة، ولم أتمكن من النظر في عين أي من أولئك الذين ينتمون إلى الهوتو، ولكنني وجدت أنني لا أستطيع العيش هكذا إلى الأبد”.