كاتب بلا حدود: استعادة حوار مع إدواردو غاليانو

سكوت ويتمر

إدواردو غاليانو (1940-2015) يحتقر الحدود في كُلٍّ من الحياة والأدب. بعد أن قضى سنوات نفيه في الأرجنتين إثر الإنقلاب العسكري في بلده الأورغواي عام 1973، عاد إلى مونتفيديو في 1985. تهدم كُتُب غاليانو الفوارق بين التاريخ، والشِّعر، والمذكرات، والتحليلات السياسيّة، والإنثروبولوجيا الثقافية. ببراعةِ الإحساس الرهيف لا يلجأ إلّا لاستخدام «الكلمات التي تستحق فعلاً أن تكون»، وذلك لمواكبة المنظورات الإنسانيّة الأخلاقيّة المعالِجة للقضايا الشخصيّة والسياسيّة في آن. تُضفي كتاباتُه التقدير والتوقير على تجارب الحياة اليوميّة وخبراتها كنقيضٍ مقابلٍ للإعلام الجماهيري الذي «يتلاعب بالوعي العام، ويحجب الواقع، ويكبت الخيال المُبدِع… وذلك بغية فَرْض طرائق معيّنة للعَيش وتنميط الإستهلاك.» بصوته المُضاف للأصوات التي نادراً ما وصَلَت إلى أسماعنا، يدحضُ غاليانو الأكاذيب الرسميّة التي تمرُّ مزوَّرِةً للتاريخ – تُمَثِّلُ أعمالُه فصاحةً أدبيّة وتُجَسِّدُ عدالةً اجتماعيّة.
جَمَعَ في كتابه «أصواتُ الزمن: حياة في قصص»، 333 نصَّاً نثرياً بروحٍ شِّعريّة عَبْر تدفقات خليط كأنها الفسيفساء، مكوَّنة من الفكاهة، واليأس، والجمال، والأمل.
خلال زيارةٍ له لشيكاغو، تحدّثَ غاليانو لمجلة «In These Times» عن حياته وأعماله.

*عملتَ في كتابك «أوردة أميركا اللاتينيّة المفتوحة» (1971)، على تحليل الاستغلال الوحشي لموارد أميركا اللاتينيّة وثرواتها من قِبَل الولايات المتحدة والقوى الأوروبيّة. نُشر هذا الكتاب، الذي أصبح مرجعاً، في بداية فترة اتصفَت بالاضطراب والعنف في التاريخ الأميركي اللاتيني. كيف كانت حياتك في ذلك الوقت؟
كنتُ أعملُ صحفيّاً، ودائماً بمهمات مستقلّة، ولمجلة أسبوعيّة – المغامرات المجنونة للصحافة المستقلّة. ولذا؛ كنتُ أحَصِّلُ تكاليفَ معيشتي بصعوبة بالغة، وكاتباً أيضاً لأشياء أخرى، أو محرراً لكُتب عن الحياة الجنسيّة للنحل، وهكذا. كما كنتُ أعمل لدى دائرة النشر في جامعة مونتيفيديو. في الليل أعود إلى البيت للعمل على الكتاب. استغرق ذلك أربع سنوات من عمليات البحث وتجميع المعلومات التي أحتاجها، وتسعين ليلة لكتابة الكتاب.

*ألم تكن تنام؟
أفترضُ أني لم أكن أنام. ها أنا أتذكّر الآن، كنت أحتسي أنهاراً من القهوة، مما وَلَّدَ لديّ حساسية تجاهها، لكني تجاوزتها لحسن الحظ، وأنا الآن شاربُ قهوةٍ ممتاز.
كنتَ وقتذاك قد أُجْبِرْتَ على المنفى في الأرجنتين، حيث عملتً في تحرير مجلة «أزمات Crises».
في بداية 1973 كنتُ مسجوناً لفترةٍ قصيرة في الأورغواي، وقررتُ حينها أنّ حياة السجن لم تكن صِحيَّة، ولذلك ذهبتُ إلى بوينس آيرس. شكَّلَت المجلة تجربةً جميلة. أخرجناها للنور بجهود مجموعة صغيرة من الأصدقاء، محاولين فتح طريق جديدة في التعبير والحديث عن الثقافة.

* هل واصلتَ النشر عندما فرضَ النظامُ العسكري الرقابة؟
فعلتُ هذا لمدة شهرين أو ثلاثة، وبعد ذلك باتَ أمر الاستمرار مستحيلاً. فُرضَ علينا أن نختار بين الصمت أو الإذلال. كان بمقدورنا البقاء أحياء إذا قبلنا الالتزام بالكذب، أو نصمت. قررنا أن نصمت تماماً ولا نتظاهر بأننا أحرار في الوقت نفسه، لأننا إنْ فعلنا ذلك فإننا نمنح النظام العسكري عُذراً ليقول: «أترون، ثمّة حُريّة للتعبير هنا.» عدد كبير من المحررين قُتل أو اختفى أو سُجن أو ذهب إلى المنافي، ولذا؛ كان الخروج والتخلّي عن المجلة قراراً صائباً. تركنا وراءنا ذكرى طيبة جداً عن مجلةٍ ثقافيّة إستثنائيّة. أثبتنا أنه من الممكن امتلاك تصوُّر مختلف للثقافة وطرحه. ليست الثقافة التي ينتجها المحترفون ليستهلكها غير المحترفين من الناس، كالعُمّال أو المجهولين في المجتمع. فبدلاً من ذلك، كُنّا نحاول سَماع أصواتهم. ليس الاكتفاء بالحديث عن الواقع فقط؛ وإنما مساءلة هذا الواقع، «ماذا تقول لي؟» كان هذا الحوار مع الواقع مفتاح نجاحنا. ولهذا تَمَثَّلَ أحد القرارات القضائيّة الأُولى للنظام العسكري في مَنْع بث ونشر «الآراء غير المتخصصة.» كُنّا نحاول إظهار أنّ الأصوات الأفضل تصدر من الأفواه غير المتخصصة.
في منتصف عام 1976، أُجبرتُ على الفرار من الأرجنتين لأنّه من المفترض أن أكون، ضمن مَن هُم على قائمة فرقة الموت، مُرَشَّحاً للإغتيال. عدد كبير من أصدقائي قُتل، وأنْ تكونَ ميتاً لأمرٌ مُضْجِر، ولهذا اخترتُ المنفى في إسبانيا.

* في إسبانيا بدأتَ كتابة ثلاثية «ذاكرة النار»، نسيج ملحمي متشابك يغطّي أكثر من خمسة قرون من التاريخ الأميركي وثقافته. ما الذي دفعك لخوض مشروع تذكاريّ ضخم كهذا؟
في البداية أخافني المشروع. تصوّري الأوّل كان أن أروي تاريخ أميركا اللاتينية. ثم قال لي أحد أصدقائي المقربين، الشاعر الأرجنتيني خوان غيلمان: «لماذا لا تغطّي كلّ جهات أميركا، ليس فقط أميركا الجنوبيّة أو الوسطى؟ نحن نشترك في أصلٍ واحد والكثير من القصص المشتركة تتقاطع، ولعلّنا نملك مصيراً مشتركاً. ليس المصير الرسمي الذي بنته الأكاذيب المحترفة داخل مرجعيات السلطة؛ وإنما تاريخٌ مُضاد يمكن أن يساعد على إيجاد مصير مُضاد.» لقد أغواني بكلماته وحَثّني، وهكذا قمتُ بتغطية كلّ أجزاء أميركا كوسيلة لإظهار حقيقة أنّ «أميركا» هي كلّ أميركا، من ألاسكا إلى تشيلي.

* الهجرة، المسألة الماتزال مطروحة في الولايات المتحدة، تعاود الرجوع إليها كموضوعة مهمّة في كتابك الجديد «أصوات الزمن». هل لكَ أن تتحدّث عن كيف تُفهم الهجرة في أميركا اللاتينية بالمقابل الضدي من كيفية فهمها هنا؟
– تعتمد المسألة على الزاوية التي تُعايَن الأمور من خلالها. ربما تُطرح الهجرة بوصفها خطراً وتهديداً، أو تطفُّلاً، أو حقاً مشروعاً. جميعُنا مهاجرون. باستثناء القليل من الشعوب في جنوب أفريقيا، جميعُنا جئنا من مناطق أخرى من العالم. جميعُنا جئنا من إفريقيا، وهذا نبأ سيء للعنصريين الجَهَلَة. أنا أعتذر، ولكننا كُنّا جميعاً سُود في وقتٍ ما. ولذلك نحنُ جميعاً مهاجرون. هذه طريقتنا في الحياة منذ الأزل. والأمر نفسه ينطبق على الفراشات، والحيوانات، والطيور. وحدنا نحن البَشَر مَن خلقَ الحدود في وجه الهجرة، لنقول: «أنتَ لا يمكنك الذهاب إلى ما بعد هذا الخطّ. هذه نهاية البَلَد، وهنا يبدأ بَلَدٌ آخر.» أخشى أن يتمّ تذكُّر زماننا كحقبة حزينة في حياة الإنسان حيث كان المال حُرّاً، لكنَّ الشعوب لم تكن كذلك.

* لماذا نعاينُ انتعاشاً لليسار وولادة جديدة له في أميركا اللاتينية؟
هذه إرادة الشعب، إرادة تغيير الواقع. لقد تعرضت الشعوب للخداع طوال تلك السنوات التي دُعيت وادَّعَت بأنها خاضت التجربة الليبراليّة، بينما لم تكن ليبرالية على الإطلاق. إنها ليبراليّة المال فقط. ولن يكون سهلاً الخروج منها، لأننا أصبحنا سجناء لِمْا أُسمّيه «ثقافة الوَهَن والعُنَّة». إنه لأمر في غاية الصعوبة أن تبني في أميركا اللاتينيّة ديموقراطيةً بعد سنوات وسنوات من الإرهاب والرُعب تحت حكم العسكر، وفي عالمٍ ليس ديموقراطيّاً سيحول دون إقدامك على تغيير أي شيء. سيأتيكَ الخُبراء. لن يأتيك الجنود؛ هُم الخبراء الآن. أحياناً يكون الخبراء أشدّ خطراً من الجنود. سيقولون: «لا يمكنك فعل هذا. السُوقُ هائج. قد يغضب السُوق». كأنما السُوقُ كائنٌ غير معلوم لكنه فَعَّالٌ ونَشِطٌ جداً وإلهٌ قاسٍ يعاقبنا لأننا نقترف الخطيئة المميتة الكبرى بمحاولتنا تغيير الواقع.
يكفي أن تنظر إلى إيفو موراليس، رئيس بوليفيا. كانت بوليفيا أغنى بَلَدٍ في كُلّ أميركا في بداية حقبة الفتح. كانوا المالكون للفِضَّة التي أتاحت لأوروبا أن تثري. بوليفيا الآن أفقر البلدان في شمال أميركا. كانت ثروتها هي خطيئتها المميتة الرئيسيّة. يحاول موراليس الآن أن يُنهي هذا الواقع المخزي والمُذِّل، والمتمثِّل في العمل الدائم من أجل رفاهية الآخرين. عندما قام بتأميم الغاز والبترول، حدثت فضيحة على امتداد العالم. «كيف تَجَرأ؟ هذا فظيع!» لماذا ما فعله موراليس فظيع؟ لأنَّ استعادة الكرامة تشكِّلُ خطيئة مميتة. غير أنه اقترف خطيئة مميتة أخرى: إنه يعمل ما وَعَدَ وتعهدَ بعمله. نحن، في أميركا اللاتينية، نعاني وبِحِدَّة خاصّة من الطلاق بين الكلمات والحقائق. عندما تقول نعم، فأنت تفعل لا. عندما تقول أكثر أو أقلّ، فأنتَ تفعل أقلّ أو أكثر. ولذلك؛ فإنَّ الحقائق والكلمات لن تلتقي ببعضها أبداً. عندما تتواجه بلا اتفاق وبالصدفة، فإنها لا تقول لبعضها «أهلاً، كيف أنتِ؟»، لأنها لم تلتقِ من قبل على الإطلاق. لقد دُرِّبنا على الكذب. دُرِّبنا على قبول الأكاذيب كأسلوب حياة.

* قُلتَ: «الواقع ليس قَدَراً؛ إنه تَحَدٍّ… ليس من المُقَّدَر علينا أن نقبل به كما هو.» كيف تتفادى أن تصبح ساخراً مولعاً بالانتقاد فقط في الوقت الذي يبدو التغيير مستحيلاً؟
بواسطة الإبقاء على ذاكرة الكرامة والاحتفاظ بها. هذه هي الوسيلة الوحيدة. بالقول وإعادة القول دائماً بأننا لم نولَد السنة الماضية؛ نحن وُلِدنا عبر فترات طويلة من الخيانات، ولكن أيضاً عبر فترات طويلة من الكرامة. ففي شيكاغو حيث نحن الآن، مثلاً، من المهم استعادة ذكرى الأوّل من أيّار/ مايو. في زيارتي الأولى للمدينة، قبل سنوات، ذُهلتُ كون معظم الناس الذين التقيتهم لم يكونوا على معرفة بأنّ عيد العُمّال العالمي هذا – هو مأساة وعيد في الوقت نفسه، إنما كان تحية إجلال لشهداء «هاي ماركت Haymarket» (1) في نهاية القرن التاسع عشر – قد اجترحته شيكاغو. وأنّ شيكاغو قامت بإلغاء هذه الذكرى، والتي هي في غاية الأهميّة في نظر العالم بأجمعه. هذه الذكرى أكثر أهميّةً في الأوقات الحاليّة من أي وقت آخر، لأنَّ في كلّ أوّل من أيّار/ مايو جموعٌ وجموعٌ من الشعوب، بمختلف اللغات، بمختلف الثقافات، في مختلف القارّات، كلّهم يحتفلون بالحق في تنظيم أنفسهم. أما هذه الأيام، فإنّ أكثر المشاريع أهميّةً في العالم، مثل «وول – مارت Wal-Mart» (2)، تقوم بمنع تشكيل النقابات. إنهم يُلغون تقليدَ قَرنين من نضالات الطبقة العاملة. من المهم من أجل شيكاغو والعالم أجمع استعادة هذه الذكرى. ليس بزيارتك لها، مثلما تزور متحفاً، ولكن لتستقي منها ماءً نقياً لإطفاء عطشكَ للعدل، وللجمال. إنها طريقة في معرفة أنّ الغد ليس مجرد اسم آخر لليوم، لأنّ الأمس يقول لكَ بأنّ الزمن يوالي مسيره.

(1) في 4 أيّار/ مايو 1886 احتشدت جموع على نحو سلمي في Haymarket Park ، في شيكاغو، لمؤازة إضراب العمّال من أجل تحديد ساعات العمل بـثمان فقط. أثناء ذلك ألقى مجهول قنبلة على رجال الأمن المتواجدين هناك، تبعه إطلاق رصاص من جهة أخرى، ما أدّى إلى مقتل سبعة رجال أمن ومجموعة من المحتشدين. عُرف الحَدَث بـ»مجزرة هاي ماركت». (ويكيبيديا).

(2) Wal-Mart: أحد أضخم مشاريع المخازن الأميركية الكبرى ذات الفروع المتشعبة في مناطق عدة من العالم. (المترجم).

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة