جمعة عبد الله
السؤال الذي يخطر على البال، ما الذي يدفع باحثا في الشؤون الدينية أن يقتحم التجربة الشعرية، في ابداع مرموق ومتألق في جماليته. ما هذه الشحنات الملتهبة التي تفور في دواخل الوجدان، من احاسيس تستعر في نارها وعواطفها بالانفعالات الثائرة، من ارتدادات شرارات وشظايا الواقع، الذي تلعب به الاهوى يميناً وشمالاً، واقع متعثر بالثغرات والفجوات والهفوات القاتلة والمريرة، التي تذوب في هشيم النار، لتخلق نوبات في اعماق الذات، بالانفعالات المتشنجة في وجدانيتها الغاضبة.هذا الارتجاج الوجداني لزوابع الواقع ومشاطره وشراراته وشظاياه الحارقة، وترجمتها في دقة وامعان، وبصدق وجداني مؤلم في اوجاعه، في المجموعة الشعرية (نوبات شعرية) للاستاذ الباحث / الشاعر صالح الطائي . ان قصائده هي من فعل نار التنور، ومن رحم الواقع، في سياقها التعبيري الدال في مدلوليته، اي انها تمازج بين الصراع الداخلي ومراراة الواقع الملموس ، في هيجان نوباتها الهائجة، التي تجعل المرء يخرج عن طوره في هياج صارخ ، من ضخامة الجراح وثقل المعاناة القاهرة، في استفزازها للذات في اثاراتها الساخنة، التي تتفاعل على الواقع الفعلي، بكل تداعياتها . ان خوض المغامرة الشعرية، بخلفياتها الناضجة، في ارتجاجاتها الروحية، تعاملت بامكانية قديرة، في تعاطي الابداع الشعري ، وبالموضوعية الكاشفة دون تزويق او ديكور مكياجي مزخرف . هذه المصداقية الوجدانية في التعاطي الشعري . سلطها في محطات ضوئية كاشفة، في وسائل التعبير والايحاء، التي تناغمت مع الفعل الموسيقي، او موسيقى الانفعال الذاتي . والشيء المهم في ثراء القصائد، يؤكد الشاعر بأنه ابن بيئته ومدينته واهله الكرام ، وقبل ذلك هو ابن العراق الوفي، المدافع عن حياض الوطن بنزاهة يخفق لها القلب، وهو يرصد الذبذبات السلبية لحرائق الواقع . والشيء الاخر الذي اضافته المجموعة الشعرية، ان تجربته الشعرية، تعاملت مع الهواجس والانفعالات، بدراية واسعة لمجريات الواقع، ومسار احداثه المتلاحقة، والطافحة على المكشوف، التي تلعب بها زوابع العواصف الصفراء، التي تجمعت حول سماء العراق، انه ينطلق في معاناته واوجاعه، ليتخذ منها رؤيا وموقف واضح ، في ايمان صادق في تربة العراق. لذلك يترك اثراً مثيراً في محفزات الاثارة، عند القارئ او المتلقي . ليجد قصائد النوبات الشعرية، هي حالات موجعة ومؤلمة، من التأزم المأزوم . اننا امام حالة من قصائد ترقص بجراحها كالطير المذبوح، او هي نوتات من رقصة (زوربا) لترويض جراحه النازفة . هذه هي الومضات التعبيرية لرؤى الواقع المتحركة . ان دخول باحث مرموق في الرؤى الشعر، تمثل اضافة نوعية للابداع الشعري بالنوع وليس بالكم . فأنه يجابه ثيمات الواقع ويقف بالمرصاد لها . كصوت شعري ملتزم بقضايا الوطن، بالصدق الوفاء لتربة الارض، دون ان يبغي شيئاً سوى مرضاة الله تعالى والضمير، لا اكثر ولا اقل .
ومن قصائده الوطنية . قصيدة (يا أغلى مستقر) يهفو بهواجس حنينه وشوقه الى محبة الوطن واهل الوطن، ويدعو ان يعم السلام روبوعه، وانسانه الاستقرار، لان العراق بمثابة البيت الاعز، الذي يرفرف بحروفه في خفقات قلوب الاكرام والشرفاء الطيبين، هؤلاء يتماهون بزهو بمحبة الوطن، والدفاع عن حياضه
يرقى بزهوك
كلَ من عرفت أصائله
وطاف حول صرحك .. واعتمر
يا أيٌها الملآن كبراً
أيُها البيت الاعز
لا زال أهلوك الكرام
يدفعون الضرَّ عنك
ولا فخر
أنتَ العراق
وفيكَ
أغلى مستقر
وفي قصيدة (سبايكر تستفيق) هذا الجرح العراقي النازف في الغدر والجريمة، في ارتكاب مجزرة دموية مروعة ، طالت 1700 شباب في عمر الزهور، هذه الجريمة البشعة، التي ارتكبتها الوحوش من تنظيم داعش المجرم، ظلماً، وبدم بارد ذبحوا، يتعرق له جبين الضمير الحي، ان يصبحوا الشباب قطيع لذبح، التي تركت جراحها الدامية على كل انسان يرفض نهج القتل والذبح الوحشي
سبايكر قفي
امسحي الدمع
وانظريهم،
هناك في الافق البعيد
إنهم نالوا طيوف الله
أسرجوا كل الاغاني والاماني،
وهل من دنيا تحملني
لقلب الأم أغلى من
نزيف الشهيد ؟
وفي قصيدة (رتل تواشيح الهوى) عن سقوط الموصل وغيرها من الاراضي العراقية، بيد الدواعش المجرمين، واصبحوا يهددون بسقوط بغداد، لذلك جاءت فتوى الجهاد الكفائي، لتردعهم الى جحورهم مذعورين كالفئران المذعورة، من بسالة العراقي الشهم بالاقدام والبطولة . حتى طهر الارض العراقية من رجس داعش الاوغاد، فقد كتبت حروف النصر الكبير بدم الشهداء الابرار، وبسالة العراقي الجسور، وكان النصر المبين
يا ما حضاراتٍ صنعت
وفيك تاريخ ثوى
خسئ الدواعش
إنهم كلب على قمر عوى
جيش العراق لم تزل
ذخراً لملعون غوى
قد أمرضوها حقبة
وأتيت للداء الدوا
النصرٌ مجدٌ الاكرمين
الطيبين المنتوى
والارض تبقى حرةٌ
وفي قصيدة (رسالة الى ولدي) ليضع النقاط على حروف الجراح النازفة، من حكام العراق، في جورهم وظلمهم، وغياب العقل والرؤية البصيرة، تحول العراق الى مشاريع موت وخراب، مشاريع فساد ولصوصية من ابناء الفساد والرذيلة، ينامون على وسائد الحرير وتخمة الاسراف المجنون من المال المنهوب، والشباب ينامون فوق الرماد، والجياع في البطون الخاوية، تفتش عن الخبز المر، وهم يكتنزون الذهب والدولار من السحت الحرام، حتى افقروا العراق .
يا ولدي
لرجالات عهود العصف
حكام الجور الاوغاد
مشروع
للموت
ضاري الأحقاد
طعم
جسر
مجزرة
ظلم ببلادك يزداد !
عسف التاريخ
وفي قصيدة (يا واسط الخير والكرم) موجهة الى مدينته واسط (الكوت)، التي احتضنته بمرها وحلوها، وعاشرته في العهود المظلمة، وتجرع فيها الويلات، وكذلك كان الموت على بعد منه اقل من خطوة واحدة ، في الخطف الذي دام ثلاثة عشرة يوماً مظلما . لكن حبه وعشقه الى مدينته يتعمق بالحب والشوق الى ناسها واهلها الكرام، الى المدينة التي جمعت القلوب من شتى الطوائف والاعراق، وكانت (واسط) سيدة الدهور، عاشت في كل الازمنة الغابرة، ولم تنل من طيبة وكرم وشهامة اهلها، فقد ضربوا مثالاً رائعاً في التاريخ والحضارة، واسط ياضحكة القباب والمنارة
واسط ياسيدة الدهور
ياجميلة العصور
بحضنها غفا التاريخ متُكئاً
يسمع القصة الألف بعد الألف
متربصاً، متلصلصاً
يسرق من ثغرها ابتسامة،
ومن قوامها ووجهها الضحوك
ألف ألف علامة،
ويفتخر مما يرى أمامه
وفي قصيدة (لو تدري) يطلق جوانح وجدانه الحزينة ، الى التي خطفت قلبه، وسارا في طريق الحياة معاً على الحب والمحبة، في رفقتهما الحياتية برباطها المقدس، في الافراح والاحزان، بحبل الوصل المتين، لذلك كان فراقها مؤلم وموجع يحترق بناره في الضلوع، فكانت ساعة الرحيل مؤلمة، تجرع كأس المرارة ، بعد العمر الطويل، لم يبق منه سوى القهر والعذاب، بجمرة الحزن، فأنها تركت بساتين بلا زهر، لذلك تهفو خفقات القلب الى تلك البعيدة الراحلة ، لتتفجر جراحات القلب، مسكون بالقهر
لو تدري يا مبعث فخري
أني من ستين وأكثر
أهواك
من عمري أكثر
لكن الصبر شحيح
فأنا من جراء الهجر
ساعاتٍ مثل الجمر
ساعاتٍ مثل القبر
مسكون بالقهر
لم يبق من العمر سوى سوُر في قدح
وقطيراتٍ في القعر
وبساتين بلا زهر