علي لفته سعيد
كنت أبحث عن ظلّي.. أمضيت أسبوعًا آخر وأنا أبحث في الأماكن التي تخيّلت أنّي زرتها أو وطئت قدماي إسفلتها وأرصفتها.. هكذا قال لي جاري العتيق في إجابتي على سؤاله الروتيني عن أحوالي.. قلت له إني مصاب بصداعٍ غريب.. إنه لا يدور في رأسي ولا يسبّب له الدوران ولا دوخة موجعة.. مجرّد ألم أشعر به وكأنه يكلّمني ويحرّف الكلم عن مواضعه، وأنشده في تثبيت الصورة التي أريد الاطلاع عليها، ويعلو من الضجيج كلّما آويت الى الهدوء، أو اتكأت على عمود إسمنتي.. إنه يخرج من جوف الرصيف ويصعد بي إلى الطبقة الثانية من الهذيان. . ضحك الرجل في سرّه.. شعرت بمعدته كيف تهتز فتمتزج سوائلها وتقرقر في الأمعاء، لأفتح عيني على سهوبٍ غريبةٍ، محاولًا الهرب من أمامه قبل أن أكتشف أشياءً أخرى في داخله.. كانت الضحكة التي رسمتْها ملامحه التي أراد إخفاءها بين تجاعيده باهتةً مثل ضفدع صافنٍ، من دون أن يدرك أنني قادر على قراءة الملامح.. هكذا علّمتني الحروب التي علّمته الصبر كما قال لي.
جاري مهووس بالنظر الى تجاعيد كفيه.. التعرّجات التي تمنح تفاصيل وديان وأنهر وسواتر ناعمةٍ وخشنة.. يقول لي لما رآني أحدّق بالمجهول ولا أستقرّ على أمر.. تعال يا ولد أنظر ماذا فعلت الحروب بنا.. لا يدري جاري هذا أيّة تجاعيد رسمتها الحروب في دواخلي التي باتت تحمل أسلاكها الشائكة في التفاصيل، حتى إذا ما تحركّت قليلًا لأهدأ ولو تحت الشمس أعود الى الصداع. قال لي: يا ولد تعال لنتقاسم الحديث ونرى أيّ الحروب أمّض؟ حروبكم التي لا معنى لها، أم حروبنا التي خسرناها؟ ضحكت وقلت له هل تراهن أم تتحدّى؟.
لم يفهم قولي لكنه أخذني الى ظلّ شجرة مائلةٍ من بطن الرصيف، تتدلّى أغصانها الى فم الشارع وقال اسمع.. لكني لم أسمع، سرعان ما ضاع الظلّ وتحرّك بالاتجاه الآخر.. أبحث عن عيني المنفوختين وعن الحروف اللاصقة في لهاثي وعن يدي التي تمرغّت بتفاصيل معجونة باللا معنى.. كنت أريد التخلّص من قبضة يده التي تشبه قفلًا قديمًا أحكم إغلاقه على ظلفتي باب.. أشار بأصبعه الى شيءٍ ما، فجاء الظلّ له، ورسم أشياءً غريبةً، فبدت له تشبه معارك قديمة. لكن الأغرب أني أسمع صليل سيوف وضرب صنوج وتهشم معاول، ثم يخرج ظلٌّ من حافّة الرصيف الأخرى، فيبدو مثل بندقية «برنو» تلمع في انعكاس صورتها على العمود الإسمنتي للرصيف. أسمع صوت طلقتها التي ترنّ في الآذان مثل صوت زغرودةٍ هائجة.
كان الشارع فارغًا.. وأنا مشدوهٌ بتحرّك الظلال بحسب حركة يده.. أومأت له أن يتوقّف عن مشاغلتي، ليس بيدي ما يمنحني القبول بتحدّيه.. حتى لو تمكّنت من حصر الظلال التي أريدها، فلا أجد مسوّغًا من القبول بتركيب أشيائها، لأنها ذاتها ستتحوّل الى معركةٍ، وقد أُصاب جرّائها، مثلما أصبت ذات نهار وأنا أهرب من قذيفةٍ سمعت صوتها ورميت نفسي الى داخل الموضع، لأصاب بحافّة سقف الموضع الحديدي، ويُشجّ رأسي ويحوّل الجرح الى ورمٍ يذكرني بالنجاة.
قال لي جاري العتيق: إن الرّوح تسكن الشمس فلمَ تركض خلف الظلّ؟..
قلت له: إن وجدت ظلّي سأعترف بوجود الشمس.
هزّ يده وهو يعود الى الرصيف كأنه ينعتني بالبطر كوني أبحث عن متعاكسات الحياة.. ثم ما لبث أن حرّك من جديدٍ يده، فتناثرت ظلاله مثل أمنيات رأس السنة، فبانت لي شابّةٌ تكتنز اللّذة في صدرها، وتعلن عن بياض لا يشبه الشمس.. لم أكمل دورة رأسي حتى لمحت رايات سوداً وخضراً وحمراً وبيضاً وصفراً تركض خلفها. تصطدم الشابة بالأعمدة والجدران، باحثةً عن ملاذٍ يقيها ريح الرايات.. نظرت إليّ بشيءٍ من الدهشة، وهي تراني أتلّم مثل جريحٍ وحيدٍ وسط دخان يغطّي الشمس.. ركضت نحوي فتبعتها الظلال التي تحيطها من كل الجوانب، والرجل العتيق غاب عنّي تمامًا، ولم أعد أراه..
اختفيت خلف العمود الإسمنتي للرصيف الآخر، فجاءت والتصقت به وقالت: أرجوك حرّك يديك لعلّ السواد يختفي..
ثم صرخت بخفوت صوتي.. يا أنت.. كلما زاد صمتك طوقتنا الظلال ولن نعيش إلّا بالسواد..
ضحكت.. ضحكت .. ضحكت.. حتى صرت أقحّ، وأنا مغمض العينين. وحين فتحتهما وجدت ظلًّا يشبهني يبكي.
ظلال تائهة
التعليقات مغلقة