الخزعلي في غنائه السومري

علوان السلمان

عملية الخلق الشعري هي وليدة محصلة قوى ذاتية (الشاعر) ومكتسباته المعرفية عبر الالتقاط الواعي للأشياء من خلال الحضور في فضاءاتها والاندماج بتحولاتها.. كون القصيدة مغامرة الشاعر في التعامل مع حقائق الوجود لحظة امتلاكها الوعي..والتي تكمن في قدرتها على التجاوز والتخلق في عالم يرتكز على مرتكزات فكرية واجتماعية وصور متوالدة داخل النص وهو يحلق صوب مدن الحلم التي يحتضنها مناخ ايقاعي يسافر بها بعيدا وهو يغني اغنيته الكونية..كون (الغناء يستيقظ بالذات عندما تكتمل المطابقة بين الشكل والمضمون)كما يقول اراغون.. فيعبر عن ذاتية قصوى بموضوعية قصوى..
والشاعر ريسان الخزعلي في مجموعته الشعرية( طريقة في الغناء) الصادرة عن دار ميزوبوتاميا/2011 بقصائدها التي نسجتها انامله السومرية وهي تنحت في صخر الوجود الطبيعي فتقدم سبعا وعشرين قصيدة شعرية تعالج اشكالية الاغتراب بوعي عبر جدلية الصراع ما بين المتناقضات التي تعمل على تعميق دلالة النص وتوسيع فضاءاته..
في مدن الجنوب
يكون النهار اوضح..
والليل اعمق…
والماء في المستقر الاخير
***
على عجل تركنا النهار هناك…
يلوح للوجود التي استضافت حزنها
وما عاد من حسنها غير
خيط من تجاعيد… /ص7
فالشاعر يعتمد المنطق الجدلي الذي تخلقه المتضادات (النهار ـ الليل..) والتوازي في الافعال والصور..اضافة الى انه يعتمد خزين الذاكرة فيعبر عن ذاتية جمعية بلغة تختصر الازمان.. كون الشعر (امتداد مدروس لمعطيات الزمن)..
اعرف امرأة في التسعين..
حتى قبل وفاتها بيومين..
كانت تردد:
سولك نهر يهواي وابصف نهرنه
كل العشك مستور واحنة اشتهرنه
فالشاعر يواكب الذاكرة الاولى بشعبيتها فيداخل حياتها بلغتها وفلكلورها فيوظف (الدارمي) الشعبي للتدليل على القيمة الاجتماعية والبعد الانساني الذي تمتلكه في سياق النص دون ان يفقده تكنيكه..بل ليسهم في تجديد مدلوله المقصود بحد ذاته..وتحقيق الاقتراب من صراع الذات عن طريق التلاصق باللهجة ومفاهيمها.. اضافة الى اعطاء النص بعدا تشكيليا من خلال التنويع في اللغة واللقطات المشهدية..
فالقصيدة تحمل هاجسها وتوترها وهي تواجه الاحباط النفسي الذي يكشف عنه بيت (الدارمي الشعبي) ..الذي يوظفه الشاعر للكشف عن انتمائه من جهة ووعيه لطاقة المفردة الشعبية التفجيرية من جهة اخرى.. اضافة الى تركيزها على البيئة والعاطفة الفكرية والحسية التي خلقت صورا مموسقة يلفها الدفء والحلم..وهي تتلون بمناخاته الشعرية المستلة من الطبيعة(النهرـ القصب ـ النجوم ـ المطر..) كي يتخذ منها الشاعر رمزا يعبر عن مدى ارتباط الانسان بها فتصبح ظواهرها شواهدا حية تعانق مدى الرؤيا وتداعب شغاف القلب باضفاء النسج الرومانسي في اللفظة المكثفة الدلالة والصورة الشفيفة.. المتجاوبة مع ايقاع داخلي ينسجم والايقاع الخارجي في جمله الشعرية التي تطرح موقفا انسانيا..
حزني عليك..اجيئك
ومن صبابتي ابكي

انت تعلق الرايات عمدا في الظلام
ويدلني خيط من النبض القديم..
الى قمر الجنوب
هنا..
يفر الماء من شفتي..
وهنا تلتحم الدموع مع القصب /ص115
فالارتكاز على الرمز في تكوينات القصيدة خلق التداعي بالصور مع رعاية المفردة الشعرية (ككيان قائم بذاته) واعتماد عنصر الدهشة الفاعلة المؤثرة..فكانت نصوصه الشعرية متميزة بخصوصية التعبير والرؤية مع بساطة معمقة تحرك الخزانة الفكرية للمتلقي..
فقصائد الشاعر مزيج من صور وثيمات تتفاعل في ما بينها لتمنح متلقيها تشكلا شعريا ينطوي على غاية..وهي تحمل الصوت الاخر الاعمق..المشحون عبر الحوار الداخلي والمعبأ بالتداعيات مع تشكلها من تقانات فنية متعددة..اذ فيها المشهدية من خلال تقديم الشاعر قصيدة اللوحة بابعادها الخطية والحركية التي تعتمدها الصور الحسية المقترنة بالقيم والفكرة..اضافة الى اعتماده تقانة التنقيط التي هي ابدال الدال اللساني بالدال الطباعي الصامت الذي يشكل دلالته الجوهرية التي هي (فعل تلفظي بالغياب)..والذي يستدعي المتلقي كي يكون مشاركا في بناء النــص المحقــق للمــوحيات النــفســـية
والفنية..التي تنتج من تفاعل دلالات الصور الجزئية والتحامها بوحدة عضوية مشحونة بالقلق والتمرد والاغتراب الذي يعصف بالذات والذات الجمعي والوجود..
في جبينه لسعة الصحراء
وفي عينيه دوار العصفور
يوهمنا بانه شيخ المزرعة
غير ان الصبي الراكض قرب النهر
يشير الى بائع الورد بالمجان
……………
وبائع الورد…
مازالت اردانه تنفض غبار السلمان /ص148
فالشعرية المهيمنة على قصائد الشاعر شعرية الفكرة..اذ انها تشكل طوفانا من المشاعر والرؤى التي تصوغ من الذاكرة معطيات ودلالات انسانية تشكل هاجس النص الشعري المعبأ بتعددية الاصوات داخل بنيته الدرامية التي تحرك ايقاعه الجمالي والمعرفي..
دارت بنا الساعات راكضة.. وما حل الملل
….
انت اهتديت الى شارع لا يشيخ..
كيف اهتديت الى النهر والنهار؟
وكيف خلطت الماء بالضوء…
واين الاصابع حين النسيج اكتمل..؟ ص/70 ـ ص71
فالنهر القضية ..الوطن..الحزب الذي شكل حضورا واعيا يسجل شهادة الشاعر للنبع الاول الذي علمه معاني الحياة والالتــصاق بالــوطن انسانا وقــضية.. اما التكــرار الــظاهــرة الاسلوبية المرتبطة بالدلالة النفسية والتي تعكس جانبا من الموقف الانساني والانفعالي فهي تشكل التوكيد وازالة الشك..
الخزعلي في ديوانه هذا حقق حضوره داخل الازمنة والانسان وحدود الوطن بكل جزئياته (القضية ـ الحرية ـ الفرح ـ الحزن ـ الحبيبة…) التي هي معان لازمت المجموعة بقصائدها وومضاتها التي هي لمحات شعرية متميزة بدفقها الوجداني المستفز للحظة الشعرية..بامتلائها لقدرات تعبيرية وتقانات فنية متداخلة.. مشبعة بموسيقاها وزمكانيتها التي شكلت مشهديتها السيمية التي فرشت روحها مع درامية دينامية تعتمد الاختزال الذي عمق الرؤيا عبر صراع المتضادات المعبرة عن حالة نفسية مأزومة..ومن ثم تحقيق الجمالية باعتماد التكثيف الصوري والايقاع الهاديء الذي احتضن النص بتلقائية..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة