النّازحون في حمّام دمهم المُنمّق

ميثم الحربي *

1
خلال حفل زفاف يشنّ مُسلّحون غُرباء هجوما على العروس وعلى طفلها غير المولود والمدعوّين. وحدَها العروس تنجو، وبعد أنْ استفاقت من غيبوبة عميقة دامت أربع سنوات أمضتها في المستشفى «حيث بيعَ جسدُها المُصاب بالسّبات إلى مُغتصبين» تعهّدت بالانتقام من زمرة الأفعى الإجراميّة المُهلِكة، ثم قضت العروس النّاجية على أعدائها واحدا تلو الآخر، لكن مايزال أعضاء زمرة الأفعى المهلكة الباقون أحرارا وطليقين. هكذا فعلت العروس «أوما تورمان» في فيلم «kill bill» للمخرج «كوينتين تارانتينو»، حيث عاشت في وئام مع مشاعرها الانتقاميّة إلى الأبد، وهي تحلم بالنّظر إلى جسدها في المرآة وتذرف معه دموعَ العدالة القاسية على ماضي حمام دمها المُنمّق (!).
في مقاربة ما، يتقمصّ النازحون اليوم دورَ عروس. لكنهم أبطالُ فيلمهم الحقيقي الذين يواجهون فيه أفعاهم الإجراميّة المُهلكة في طول البلاد وعرضها. فأعداد النّازحين تتقاطر من المناطق السّاخنة إلى الآمنة هربا من مَهلكة المسلّحين حيث بات العراق مُنقسما على هذه الشاكلة. ومن لم يجد ملاذا في مدينة فسيتّجه صوب الخيم المنصوبة في الطّريق مع أسرته لتمضية النّهارات واللّيالي المزرية تحت رحمة الله، والمنظّمات الدّوليّة. مخاضات عسيرة ورحلة قاسية دخلت الأسر النّازحة في تجربتها ومازالت، حيث الهرب من الموت بالجلود وحدَها هو وجه آخر للموت. وقد بات بؤس الحال في الواقع الاجتماعيّ هو المادّة الثّابتة في وسائل الإعلام. في ظلّ ذلك لا يجد هؤلاء المنكوبون في نهاية المطاف غير التّمنيات بالعودة وتحقيق الأمن والسّلام التي تتبخّر دائما في الهواء الطلق. وأنْ يتوافر الأمان والسّلم الأهليّ سيكون ذلك أفضلَ حلم انتقام يتحقّق ردّا على سنوات حمّام الدماء المُنمّق للغاية. كلّ شيء في العراق تعرّض إلى الاغتصاب والانتهاك ومُختلف أنواع الأذى العميق.. حكم صدام العراق ربع قرن، خالقا منه طبيعة سايكولوجيّة محطّمة. ومن وجوه الحطام ما يتعلق بموجات «المَنزوحين»، و»المُهجّرين» من سكناهم ووثائقهم الرّسمية على أساس عرقيّ، أو قوميّ، أو مناطقيّ، أو مذهبيّ، أو حزبيّ، أو على أساس الكفاءة.
شتّى أنواع ومراحل الهجرات والنّزوح بشقّيها الإجباريّ، والاختياريّ، قاساها العراقيّون، ومازالوا يخوضون في غمار رحلة كابوسيّة مُتعدّدة الصّور ومتناسلة الآلام. شهدت البلاد وتشهد مرحلة إفراغها من العقول، ونصل اليوم إلى مرحلة إفراغها من المكوّنات «في ظل ديمقراطيّة المكوّنات» ذات الختم الأمريكيّ. يعقب ذلك مرحلة مضطربة يحتدم فيها تصادم كلّ تلك الفراغات والإفراغات داخليّا، وخارجيّا. ونجد في تعاقب هذه المراحل الشّرسة والمخرّبة لفضاء الوجدانات الجّماعيّة والفرديّة أنها تتداخل وتنمو داخل نسيج معقّد أسهم في جعل العراقيّين نمطا بشريّا من «البدو الرّحل» يبحثون عن الكلأ والماء والعشب والنار بقدر بحثهم عن الأصابع اللازمة لمسك الهويّة المائعة وإعادة تركيب طينها الاصطناعيّ؛ من أجل الشّعور بالهدوء الضّروري بعد تعريفها – عسى ولعل – بشكل نهائيّ. ومن الملاحظات المعروفة لموجات النّزوح والهجرة العراقيّة أنها تتشتّت من أجل مسارين شأنها شأن جميع أشكال الهجرات التي حدثت في بلدان الصّراعات والحكومات التّسلطية. الأوّل من أجل الحفاظ على الحقّ الجسديّ في البقاء على قيد الحياة، والثاني من أجل البحث عن الحرّيّات الشّخصيّة ومباشرة نسق حَضريّ آمن يرفد الأبناء والأحفاد بعشبة آمان وحرّيّة عقائديّة في أيّ مكان أجنبيّ. ويندرج كلّ ذلك تحت كل ما يعمّ عائلة الفِعْل «هاجر، أو نزح، أو بحث عن مأوى»، وما إلى هنالك.

2
بعد 2003 تم إنشاء «وزارة المهجّرين والمهاجرين» من أجل توظيب أمر المُبعدين على أسس طائفيّة، وعرقيّة، وحزبيّة، وقوميّة, خارج البلاد أيام حكم صدّام. ولأنّ العراق يختلّ فيه «نظام المعنى»، ويتشوّش فيه «نظام الحقيقة» رأينا كيف تتطاير فوقه مفردة «الدّيمقراطيّة» وتحوم على واقع مفكّك وطائش يضيع في أتونه «الخطاب الوطنيّ الجامع» الذي أثبت عبر التّجربة أنّ العراقيّين يمتلكون قدرة الاستجابة العالية إلى تلويحاته. لكنّ هذه التّلويحات لاتوجد اليوم إلاّ على شكل ذاكرة حُلُميّة، وتمنّيات مُسنّين. وعلى ملفّات النّزوح والهجرة إبّان حكم البعث التي تباشر الوزارة معالجتها، زدْ الملفات الجديدة المنبثقة التي طفت على السّطح في سنوات 2006 – 2007- 2008 … وما أعقبها من ارتدادات وتداعيات تصل بنا اليوم إلى التّهجير القسريّ المنظّم الذي يمارسه تنظيم داعش الإرهابيّ بحقّ أهالي المحافظات الشّماليّة والغربيّة على أساس مذهبيّ، ودينيّ. وعلى كلّ حال فإنّ حديث «الشقّ الكبير والرّقعة» يختم لنا دائما نهاية كلّ كلام (!)

3
إنّ المفارقة اليوم تكمن في صورتيْن متقاطعتيْن، فهؤلاء النّازحون مَنحتْهم عمليّتنا السّياسيّة الجارية، كلّ العراء، كنوع باذخ من الكرم السّياسيّ (!). فمن المؤكّد أنّ من بين هذه الحشود من صوّت في الانتخابات الأخيرة تحت ظروف مرتبكة وقاسية ثم هربَ مع أسرته بالجلود التي عليهم من القتل المُحقّق. بعد ذلك ارتدى البرلمانيّون الجدد زيّهم «النّظيف» وجلسوا على مقاعد البرلمان تحت قبّة مُكيّفة مع حماية ومخصصات وذهبَ النّاخبون إلى جحيم البؤس يُحدّقون في حاضر مُظلم وأصابع بنفسجيّة شاحبة تشير إلى مستقبل رائع من الخذلان والخيبة. على الأرض مازالت أعداد النّازحين داخليّا تتزايد وهي – أصلا- بالآلاف. فبتاريخ 22/6/2014، تعلن جمعيّة الهلال الأحمر العراقيّة هذه الأرقام: ارتفاع عدد الأسر النّازحة من محافظة نينوى الى أكثرَ من «81» ألف أسرة، ويبلغ عدد الأسر النّازحة إلى محافظات الإقليم الثّلاث أكثرَ من «63» ألف أسرة موزّعة على مُختلف محافظات أربيل، ودهوك، والسّليمانيّة، فيما توزّعت أكثر من «11» ألف أسرة على مناطق سنجار، والحمدانيّة، وسهل نينوى، وطوز خورماتو، وهناك «6» آلاف أسرة توزّعت على محافظات ديالى، وواسط، والنّجف، والدّيوانية، وميسان. ومن تاريخ 22/6 إلى اليوم تتالت المُفاجآت وشتّى أنواع اللّعنات حيث ازداد عدد النّازحين ارتفاعا ووصلَ إلى تخوم التّهشيم.

4
بذْل المزيد من الإغاثات الفوريّة هو ما يحتاجه النّازحون المتوزّعون في عراءات البلاد. فهم اليوم عبارة عن «كارثة دائمة» يُقاتلون من أجل توفير الحاجات الأساسيّة لهم ولأبنائهم ومرضاهم. ومع ذلك يجب رفد متطلّباتهم في العودة العاجلة إلى أماكنهم التي نزحوا منها، لكنّ هذا المتطلّب يبدو في الرّاهن مؤجّلا لكونه يرتبط في إعادة تصميم العمليّة السياسيّة الجارية من جديد. وفيما يتعلّق بالمنظّمات الدّوليّة التي تراقب أوضاعهم على الأرض فهي اليوم تسهم في تجزئة الكارثة عندما تدعو الأقليّات فقط إلى ترك البلاد في وقت تُعلن فيه هذه المنظّمات أنّ العراق في احتلاله المراتب العليا للبلدان التي تشيع فيها الصّراعات المسلحة بات خطر الموت وسوءُ الحال المعيشيّ يهدّد الأقليّات والأكثريات معا (!). على الجانب الآخر وعلى الرّغم من البؤس العارم والأخطار المحيطة ترفض أصواتٌ من قلب الأقليّات دعوات الهجرة وفي الوقت نفسه تدعو تلك المنظمات والدول إلى الإسهام الفعّال في رسم سياسة استقرار بات العراقيّون بجميع مكوّناتهم بحاجة ملحّة لها.

5
إنّ أزمة النّازحين تشتدّ بسبب اقتراب الفصل الدّراسيّ الجديد حيث طلاّب المدارس والثّانويّات والجامعات والموظّفون يعيشون في مناطق الملاذ في ظلّ التّبعثر. كما تشتدّ أكثر عندما تقوم بعض وسائل الإعلام باستثمار أزمة النّازحين حين يتمّ اختصارهم بأنهم في الملاذات الجديدة والخيم تجري أمورهم على مايرام كونهم بين أهلهم وما إلى ذلك من رطانة النّشيد الوطنيّ المجوّف الذي يريد تغييب أزمتهم الحقيقيّة ليعتاش على تزييف مُعاناة الآلاف من الضّحايا الذين يدفعون كلّ يوم الفواتير الباهظة لديمقراطيّتهم النّاشئة التي منحتهم العَراء. وترسم إشكالات النّزوح المستمرّة الدّاخليّة منها والخارجيّة مستقبلا للمكوّنات حافلا بالتّعقيدات والمطبّات حيث لم يعد الجدل الدّائر حول تماسك الهويّة ودفاعات السّلم الأهليّ أفقا متداوَلا بشكل ثقافيّ بعدما نزلَ بقسوة على شكل تجربة اجتماعيّة مستمرّة من لحم ودم. فبعد ضرورة تقديم الإغاثات الفوريّة لتلبية المتطلّبات اليوميّة، ينتظر العراقيّون أقلّيّات وأكثريّات نوعا آخر من إغاثات الهويّة على المستويات السّياسيّة والثّقافية، فبسبب ما حدث ويحدث من زلازل عميقة وقاتلة واجتماع التّركات الثّقيلة تلو التّركات الثّقيلة تتفاقم المهمّات باطّراد مقابل غياب أيّ شعور بالمسؤوليّة لدى المتولّين لمهمّة صناعة القرارات وإدارة مصير البلاد (!).

6
أنّ موضوع التّقسيم الذي يدور حوله الحديث سياسيّا، يتخلّله واقعُ تقسيم من نوع آخر حيث تنطرح جغرافيا العراق حاليّا إلى منطقتيْن: ساخنة، وآمنة. وما بينهما تمتليء الطّرق بالنّازحين ويُزودهم شهرُ آب اللّهاب بالمُتعة الاستوائيّة. وتتوزّع الإشكالات النّاجمة عن ملفّ النّزوح بين المناطق السّاخنة والآمنة على السواء، لأنّ عمليّة توفير الخدمات للأعداد الكبيرة النّازحة يتطلّب من المدن الآمنة طاقة ماديّة ولوجستيّة وقدرات استيعاب. فعلى سبيل المثال عبرت أعداد النّازحين إلى محافظة كربلاء حاجز الـ «50» ألف نازح ومازال العدد في تصاعد مستمرّ رغم أنّ قدرة استيعاب المحافظة استنفدت إمكانيّاتها المادّيّة واللّوجستيّة, وذلك لعدّة أسباب أهمّها عدم إقرار الموازنة إلى حدّ الآن؛ الأمر الذي أدّى إلى استنزاف خزين المحافظة الماليّ، بحسب تصريحات مُحافظها. وهذا الأمر يشمل كلّ المناطق التي باتت ملاذا لموجة النّزوح الكبيرة. وأمام هذه الإشكالات يستنفر الجميع جهده لإيصال وتقديم المساعدات للسّكان المنكوبين في مناطقهم السّاخنة، حيث تخترق هذه «السخونة» وتداعياتها الميدانيّة جميعَ المدن، والقرى بجوامعها ومدارسها وخيمها المنصوبة للنّازحين في هذا الصّيف القائظ. إلى جانب ذلك أعلنت المفوضيّة العليا لحقوق الإنسان في العراق عن وفاة «150» طفلاً من نازحي مدينة الموصل بسبب ارتفاع درجات الحرارة والأمراض المُعدية التي أصيبوا بها، منذ بدء الأزمة في شهر حزيران الماضي (!!). فمن يُخلّص الزّبى الغارقة في السّيل؟
* كاتب عراقي

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة