لم يمر وقت طويل على عودة (المنحرفون) ثانية الى السلطة صيف العام 1968، حتى بدأت منظومة القيم والسلوك المتعارف عليها بين العراقيين، تتصدع وتتغير، وقد اصطدمت شخصياً بشكل مبكر مع هذا البرنامج المنظم (البعثي فوق الجميع) عندما صعد نجم الكثير من حثالات وأوباش المجتمع، من الذين دفعتهم مواهبهم الفطرية (في التزلف والتملق وكتابة التقارير..) للانخراط بهذه الحملة الحكومية لتبعيث المجتمع والدولة، ولم يمر وقت طويل حتى شهد العراق سلسلة من الكوارث والكوابيس لم تنته بالرغم من مرور 15 عاماً على زوال جمهورية ذلك الذي انتشل مذعوراً من جحره الأخير. ليشهد البلد بعد ذلك من الناحية الظاهرية؛ انهياراً واسعاً لمؤسسات الدولة العسكرية منها والمدنية، ولم تتأخر جحافل الحوسمة عن قضم ما تبقى من أسلابها المادية، لكن التطورات اللاحقة برهنت على مدى صلابة ورسوخ القيم والمعايير الجاذبة لنفس السلالات والمواهب التي اعتمدت في ذلك “العصر الزيتوني” حيث استردوا مواقعهم ونفوذهم بحرص وصبر يحسدون عليه. عندما انطلق الماراثون صوب المنطقة الخضراء، وعندما تدافعت الكتل والجماعات لقضم أكبر وأدسم قطع الوليمة الأزلية، أدركت سلالات القوارض أهمية مواهبها وتقنياتها المجربة في مثل تلك الملاحم الوطنية، وحاجة فرسان حقبة “الفتح الديمقراطي المبين” لها. وفي الجانب الآخر شاهدنا؛ عمق خيبة الأمل التي عصفت بغير القليل من الملاكات والكوادر المتخصصة والنزيهة، والتي كافحت وترقبت مثل هذه اللحظة (زوال النظام المباد) بفارغ الصبر، لكنها اصطدمت بنوع الاصطفافات التي تلقفت مقاليد الأمور، وفقاً لقاعدة (شبيه الشيء منجذب اليه) عندما التقى النكرات نظرياً وعملياً مع النسخة الجديدة من قراصنة المنعطفات التاريخية.
إن حجم الفشل والفساد المهيمن على غالبية مؤسسات وإدارات الدولة، يعود بالأساس الى الآليات والمعايير التي تتيح للنكرات وشريحة الحبربش واللصوص بتبوأ هرم المسؤوليات فيها، من دون خشية من عقاب او حساب على ما يخلفوه من دمار وخراب. هذا النوع من “المسؤولين” لا يمكن ان يسمح لضده النوعي (عملياً وقيمياً) من النفوذ لاقطاعيتهم السياسية والإدارية، لما تشكله أخلاقهم وتواضعهم وروح الإيثار لديهم، من خطر على هيبتهم المصطنعة والزائفة. لذلك تراهم يعتمدون على نوع من المخلوقات تشترك مع الصراصير بكونها تشكل (مصدر قرف واشمئزاز عند معظم البشر، بسبب شكلها وحركتها ورائحتها) ليمنحوها العناوين والصلاحيات والأنواط اللازمة ليتصدروا مجالس ودواوين ما يمكن أن نطلق عليه بـ (العصر الصرصوري).
لقد هدهدنا في المنافي، طوال أكثر من ربع قرن؛ حلم زوال النظام المباد والإسهام ببناء نظام سياسي وقيمي يتيح للعراقيين تقديم أفضل واجمل ما لديهم لأنفسهم ولمحيطهم وللعالم أجمع، لكن الأقدار كانت قد حشدت لنا كل أنواع القوارض والصراصير البشرية، ليمزقوا أوصال ذلك الحلم المشروع، عبر ردة حضارية وقيمية لا مثيل لها، يتم فيها الاحتفاء بكل ما هو قبيح وقميء وممسوخ وفقاً لمعايير هجرتها الأمم التي وصلت لسن التكليف الحضاري منذ زمن بعيد. مع مثل هذه القسمة العاثرة نتذكر ما دوّنه الماغوط من وجع ومرارة ذات خيبة، عندما حذّر الغيوم قائلاً:
(إهربي أيتها الغيوم فأرصفة الوطن لم تعد جديرة حتى بالوحل).
جمال جصاني
العصر الصرصوري
التعليقات مغلقة