ريسان الخزعلي
*..في كتابه / قصة الحضارة /..، يقول ( ول ديورانت ) : واذا وقف الانسان امام دجلة والفرات ، الساكنيّن ، فإنه يتعذر عليه ان يعتقد انهما النهران اللذان رَوَيا سومر ، وأكد ، وغذيا حدائق بابل العظيمة .
وقد يتبادر الى الفهم ، انَّ قولهُ ( الساكنيّن ) قد يعني غير الفاعلين ، الا ان الاشارة لأقدم حضارتين ( سومر وأكد) الذي يتبعها ب ( حدائق بابل العظيمة ) تقلب المعنى بالكامل ، وتجعل مفهوم السكون طللياً / زمنياً ، حيث اندثار الحضارة ، واستمرار وجود نهريها ساكنين ، عاجزين عن المشاركة في الفعل لتلك، لايستطيع الافلات من وقعها في ذاكرته الشعرية ، وعلى الرغم من انها في شبهٍ ما ( مكانية الجذر )، الا ان الالتفات الى النهر ضمن المكان ، جعلهُ يمسك بطللية مغايرة لطللية الشاعر القديم / الذي صُدم َ بزوال المكان كلياً ، في حين ان النهر وجود مستمر في المكان والزمان ، وبذلك تمسّك الشاعر الحديث في مغايرته هذه، بالطللية الزمانية ، تعبيراً عن طللية مكانية لا يمسّها الزوال ( طللية زمانية ) .
يقول الشاعر / يوسف الخال / في قصيدة ( النهر) التي اجدها تطبيقاً سليماً لما تقدّم :
تحبّهُ السهول..تحتضنه
يبدأُ حيث ينتهي..كالزمن
يدور وهو صاعد ٌ مستمر..
يقبعُ في اللونِ، في الحروفِ ، في حجر
على حجر ، في التيه تارةً ، وفي وقوعِ خطْوَهِ على الاثر
يدورُ والشك..ورقةٌ تسترُ عورةَ السقوطِ ، عورةَ الرفض..
سدومُ أم اورشليمُ أم ظلُّ ايوبَ على الارض..؟
يا ايها الراكضُ في السهولِ كالزمن..
تبدأُ حيثُ تنتهي..فلا تزول .
وفي قول / البياتي/ ما يؤكد الدلالة ذاتها في قصيدة ( عن الموت والثورة) ، والتي يُهديها الى / جيفارا/ :
لا تجر ِ حتى أُكملَ النشيد
وهبتُ نجمَ الثورةِ البعيدة ، قلبي..
فيا فراتُ لا تجرِ حتى أُكملَ النشيد .
وما كان بوسعِ البياتي ان يقول لأي طلل آخر ( لا تجر ِ) سوى النهر، لأنه قصد ايقاف الزمن وليس الماء..، ومثل قول البياتي هذا، جاء قول الشاعر / إليوت /..، (فلتجرِ ايها التايمس حتى أُ كملَ اغنيتي ) . وللبياتي ايضاً ، المعنى ذاته في قصيدة / النبوءة /..، ( كلّما غيّرَ مجراه الفرات ، رقدت في قاعهِ روحي معَ الصلصالِ والعشبِ حصاة ، آهِ / مَن يجمعُ اشلائي التي بعثرها الكاهنُ في كلِّ زمان )..، وبذلك يكون الفرات دالة زمنية.
اما / السياب / الذي جعل من (بويب) ذاكرة زمنية ، في الوقت الذي كان فيه بويب ذاكرة مكانية ، فإنه هو ايضا قد قلبَ الطللية من مكانيتها الى زمنيتها :
بويب ..يابويب
عشرونَ قد مضين َ،كالدهورِ كلَّ عام
واليوم حين يطبق الظلام ،
وأستقرُ في السريرِ من دون ان انام
أودُّ لوغرقتُ في دمي الى القرار
لأحملَ العبءَ مع البشر وأبعث الحياة..
انَّ موتيَ انتظار…
انَّ الترادفات / الزمنية _ عشرون، الدهور، اليوم، البعث ، الحياة، وموتي انتظار _في قصيدة عن نهر، هي البعد الزمني الذي اراده السياب في بعث الحياة ، وجعل الموت انتصاراً لوجوده / النهر والموت /..، وبذلك ازاح الطللية المكانية الى زمنيتها_ البعث. كما ان / الجواهري/ في قصيدة / يادجلة الخير/ ، قد ازاح دلالة الطللية المكانية الى دلالة زمنية في اكثر من وقفة، ولا تردد من وصف هذه القصيدة بأنها شعر حديث_حتى وان كانت شكلاً ، تحيد عن الوصف_كونها قد توافرت على فهم حديث في / الندب والنداء/ مقترنين بظرفية زمانية :
يا دجلةَ الخيرِ..
يا نبعاً أُفارقهُ على الكراهةِ بين َ الحينِ والحينِ
انّي وردتُ عيون َ الماءِ صافيةً
نبعاً فنبعاً فما كانت لترويني
يا امَّ تلك َ التي..،
من ألفِ ليلتها..،
للان َ يعبقُ عطرٌ في التلاحين ِ…
وللشاعر / احمد عبد المعطي حجازي / تطويع فني في المعنى ذاته..، جعله بمستوى / الرؤيا / :
لكأنها الرؤيا..
قيامتك المجيدة .
ينهضُ النهرُ القديمُ بضفّتيه ِ واقفاً
حتى تشاهد في السماء مصبّة..
انَّ السؤال ، هل النهر طللية مكانية أم زمانية في الشعر الحديث ..؟ لايحتمل سوى الاجابة التي حاولتها هذه الانتباهة ، على الأعم …