حروب العراق والأفلام الوثائقية

كاظم مرشد سلوم

يعد الفلم الوثائقي احد اهم انواع الافلام التي لها مساس مع جوانب عديدة من حياة الانسان وواقعه المعاش، لان فلسفة الفلم الوثائقي تعتمد اساسا على الواقع واستنطاق حقائقه، أي عملية كشف الواقع للوصول الى اعماقه غير المرئية بنحو مباشر، من خلال معالجة العديد من المشكلات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والعلمية التي تعاني منها المجتمعات الانسانية، فعملية ابراز المسببات الحقيقية للمشكلات، وطبيعة الاماكن الحقيقية التي اشتملت على الافعال الواقعية، بكل ما تحمله من بساطة وتعقيد، سواء من خلال النقل المباشر لها، او اعادة تمثيل الحدث، أي بناء الوثيقة بظروفها الموضوعية القياسية، كل هذه سمات اساسية في بنية أي فلم وثائقي .
بعد ان خاض العراق حروب عدة، ابتدأت بحرب الخليج الأولى او ما تسمى بالحرب العراقية الايرانية، ومن ثم حرب الخليج الثانية والتي اندلعت بعد غزو القوات العراقية للكويت ، وصولا الى حرب احتلال العراق والتي انتهت بسقوط النظام ، وانهيار الدولة العراقية بكل مؤسساتها العسكرية والامنية والاقتصادية، توفر للسينمائيين العراقيين وغير العراقيين مادة وثائقية غزيرة ، كان احد اعمدتها ماصور ابان هذه الحروب ، من قبل الاطراف المتحاربة ، كذلك من قبل العديد من المراسليين الحربيين الذين رافقوا القوات العسكرية المتصارعة في ساحات القتال .
افلام وثائقية عديدة انتجت عن هذه الحروب معتمدة على كل المصادر والاشرطة الوثائقية التي صورت، هذه الوثائق وضفت ضمن بنية النص الفيلمي ، تبعا لاهداف ورغبة الجهة المنتجة لهذه الافلام ، لذلك جاءت متابينة في طروحاتها من خلال انحيازها لهذا الطرف او ذاك من الاطراف المتصارعة .
في عودة الى وثائقيات الحرب العراقية الايرانية، نلاحظ مدى العنف والارهاب والترهيب الذي مورس من خلال افلاما وثائقية، كانت تسمى صور من المعركة، تبث يوميا في الفترة الذهبية للبث المسائي لكي يشاهدها اكبر عدد من الناس، هذه الافلام تحتوي على جثث الجنود القتلى وقد تفسخت وتعفنت، هذا الامر لا يقتصر على طرف من دون طرف اخر فكلى الطرفين كان يبث هذه الافلام، معتقدين انها يمكن ان تسهم في شحذ همم المقاتلين، وكان لهذه الافلام انعكاسه النفسي على شرائح المجتمع الذي ربما تحول من مجتمع مسالم الى مجتمع شبه عنيف بسبب ذلك .
هذه الحرب، اي حرب الخليج الأولى وبسبب طولها حيث امتدت لفترة ثمان سنين متواصلة، ربما لم تلقى فيما بعد اهتماما توثيقيا حتى انها سميت من قبل بعض المتابعين بالحرب المنسية . الوثيقة السينمائية التي وثقت لهذه الحرب واحداثها، وظفت في العديد من الافلام الروائية ، سواء العراقية او الايرانية، مثل الفيلم العراقي الحدود الملتهبة لصاحب حداد، والمنفذون لعبد الهادي الرواي ، كذلك الفيلم الايراني «مرز « للمخرج جمشيد حيدري.
اجتياح وغزو الكويت في العام 1990 هي ثاني الحروب التي خاضها العراق ، هذه الحرب ربما اختلفت في الكثير من مفاصلها عن حرب العراق الاولى، بسبب المفاجأة التي صدمت العالم، باحتلال وغزو بلد عربي من بلد عربي اخر، وبسبب خطورة هذا الموقف، تدخلت العديد من الاطراف الخارجية العالمية والعربية، وعقدت الكثير من الاجتماعات تمهيدا لشن حرب الخليج الثانية وتحرير الكويت، هذه الحرب وثقت ربما بكل تفاصيلها بدءا من عقد اجتماعات القمة العربية، والوساطات التي حاولت اقناع رأس النظام العراقي السابق صدام حسين بالانسحاب من الكويت وتجنب تعرض بلده الى حرب ربما تتسبب بدمار كبير لبنيته التحتية والفوقية كذلك، ومن ثم وثق لوصول الجيوش العديدة لدول التحالف ، ومازالت مشاهد وصول السفن الحربية وناقلات الطائرات ماثلة في ذهن المشاهد من خلال الكم الهائل من الافلام الوثائقية التي كانت تستخدم ضمن الضغط النفسي على نظام بغداد .
التصوير المباشر لكل مايجري على الارض من قبل الاقمار الصناعية، وكذلك الصور التي تلتقطها الطائرات وتسجيلها لضرب الاهداف العسكرية العراقية، ارتالا وحشود الجنود، كانت الاكثر تأثيرا في الشارع العربي والعراقي، بل وحتى العالمي، ومازال مشهد طريق صفوان الكويت ماثلا في اذهان الناس، حيث مئات الاليات العسكرية والسيارات وجثث الجنود ملقاة على جانبي الطريق وهي تحترق، لم يقتصر الامر في تصوير كل ماجرى وثائقيا على ساحات القتال وتصوير ما يجري فيها، بل صورت الاهداف المدنية العراقية التي ضربتها طائرات قوات التحالف بنحو كبير، ومازال المشهد الوثائقي المثير والمتمثل بلحظة قصف الطائرات العسكرية للضفة الغربية من نهر دجلة في بغداد حيث مقر الحكومة وبناياتها المهمة يتصدر العديد من البرامج السياسية، والافلام الوثائقية التي تتحدث عن هذه الحرب، حرب الخليج الثانية وغزو الكويت، كذلك صور العراقيون اللحظات الاولى لدخول القوات العسكرية العراقية الى مدينة الكويت والخراب الذي طالها، وصور الرئيس السابق صدام حسين وهو يزور قطعاتها، في محاولة لرفع الروح المعنوية للمقاتلين العراقيين .
حرب تحرير العراق حسب ما أطلق عليها، هي ثالث حروب العراق، والتي جرت في العشرين من اذار عام 2003 ، لم تختلف الافلام والاشرطة الوثائقية التي وثقتها بشيء عن سابقتها، من حيث استعراض القوة العسكرية للولايات المتحدة وحلفائها، وفي الجانب العراقي كان ذلك اي التوثيق فقيرا جدا ربما بسبب ظروف هذه المعركة وانعكاساتها على الجميع .
سقوط النظام واحتلال بغداد هو الحدث الاهم في هذه الحرب، وهنا لا بد من تسجيل ملاحظة مهمة مع الاستشهاد بحادث مماثل، في العام 1945 وبعد سقوط الفاشية في ايطاليا نزل السينمائيون الايطاليون الى الشوارع ليصوروا كل الذي يجري من عمليات قتل للفاشيين وتعليقهم في الشوارع، وكذلك اعدام موسوليني، وعمليات النهب والتخريب والفوضى التي جرت، هذه الاشرطة الوثائقية، صنع السينمائيون الايطاليون منها فيما بعد افلام وثائقية عديدة، ووظفت كذلك في العديد من الافلام الروائية، خصوصا بعد ظهور الواقعية والواقعية الجديدة التي اعتمدت بنحو كبير على هذه الاشرطة الوثائقية .
الذي حدث في العراقي ان السينمائيين العراقيين لم ينجحوا في توثيق كل الذي جرى، ومعظم الذي صورهو مشاهد بسيطة لعمليات نهب بعض المؤسسات الحكومية، في حين ان دخول الدبابات الى بغداد والقصف، وحركة الجنود في الشوارع، وترحيب بعض الناس بهم، ومهاجمتهم من قبل البعض الاخر، كان بالامكان توثيقها كلها، حتى يمكن الاستفادة منها مستقبلا في عمل افالم وثائقية تعتمد على الوثيقة الفيلمية أو افلام روائية توظف هذه الوثيقة، لكن يبدو ان الخوف والقمع الذي كان يتعرض له هؤلاء السينمائيين كان يشكل حاجزا نفسيا كبيرا، اكثر وحشية من التعرض للأعتقال حتى بعد دخول القوات الاميركية، فالاطمئنان لا ياتي بلحظة واحدة، فكل من يحمل كاميرا فوتغرافية او سينمائية كان يتعرض للأعتقال وربما الى القتل .
الاشرطة الوثائقية التي صورها المراسلون الحربيون وبعض الاعلاميون كانت هي المادة الاساس لعمل العديد من الافلام الوثائقية لاحقا، والتي جرت وفق اسلوب البناء المونتاجي المتمثل بالحصول على أكبر عدد ممكن من الاشرطة الوثائقية، والتعامل معها مونتاجيا باضافة بعض اللقاءات من الشهود على بعض الحوادث وكذلك بعض الضحايا، او بطريقة او اسلوب اعادة بناء الحدث، واستخدام بعض الممثلين، فيلم (القرار الأخير) للمخرج انور الحمداني استفاد كثيرا من هذه الاشرطة الوثائقية، حيث وظفها بأسلوب اعادة بناء الحدث والبناء المونتاجي، الفيلم يتحدث عن ليلة ضرب مزرعة الرئيس صدام حسين قبل البدء باعلان ساعة الصفر، لكن الرئيس كان قد غادر المزرعة قبل ذلك بقليل، التحضيرات التي اعدت لهذه
الضربة، والتي كانت تتابع من قبل كل رجالات الحرب والسياسية في واشنطن، والذين ظهروا في الفيلم من خلال ممثلين غير محترفين، التعليق كان هو محور ادارة احداث الفيلم، هذا الحوار أعتمد على الوثائق الخطية التي وثقت لاجتماعات القيادات الحربية والسياسية .
العديد من الافلام الوثائقية التي اتخذت من موضوعة احتلال العراق مادة لها اعتمدت على الوثائق الفلمية المصورة من قبل كل الجهات، وربما يكون مشهد اعتقال الرئيس صدام حسين في محافظة صلاح الدين شمال العراق، هو من اهم المشاهد الوثائقية وتبعه بعد ذلك التصوير الكامل لمحاكمته مع اعضاء حكومته، حتى لحظة النطق بحكم الاعدام بحقه، ومن ثم التسجيل المثير لتنفيذ الاعدام بحقه، ما اثاره من جدل كبير ما زال قائم الى الان .
فيلم مهم انتجته شبكة الجزيرة الوثائقية بعنوان « محور الشعب « للمخرج عبد الله البني، يحاول بالوثائق والاحصائيات الوصول الى حقيقة واسباب قيام الحرب، وهل تستحق الثمن الذي دفعه الشعبان العراقي والاميركي، حيث قتل في هذه الحرب 600000 الف مواطن عراقي و4000 الاف جندي اميركي، وبجرأة عالية يطرح الفيلم اراء اهالي الضحايا الاميركان في قيمة الحرب وهدفها وهل جاءت فعلا كرد على اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر، وماعلاقة العراق بها، كذلك يظهر الفيلم جهود ناشطي السلام لمنع قيام الحرب ومن ثمة جهودهم لأ يقافها .
اذن افلام وثائقية عديدة انتجت عن حروب العراق الثلاث التي خاضها منذ العام 1980 وحتى عام 2003، ومازال العراق يعاني من وضع مرتبك وحوادث عنف، ربما تشكل مادة للعديد من الافلام والبرامج الوثائقية مستقبلا.

* نـاقد سينمائي عراقي
Saloom_k58@yahoo.com

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة