لُغَتُنَا وَالصُّورَة الُمزدَوَجَةُ

عبد الأمير خليل مراد

العَرَبِيَّةُ لُغَةُ القُرآنِ الكَرِيم، وَقَد حَفظَهَا هَذا الكِتَابُ الْمُقَدَّسُ مِن الضَّيَاعِ أَو الانْدِثَارِ، حَيثُ بَقِيت هَذِه اللُّغَةُ حَيَّةً لمَ تَستَطِع الدَّعوَاتُ الْمُضَلِّلَة وَالْمَشبُوهَة التَّأثِيرَ عَلَى مَكَانَتِهَا كَلُغَةٍ تَتَميَّزُ بِالتَّجَدُّدِ وَالبَقَاءِ فِي ضَمِيرِ الحَضَارَة الإِنسَانِيَّة.
وَلَعَلَّ الإِيمَانَ المطلَقَ بِقُدرَةِ هَذِه اللُّغَة عَلَى الاسْتِمرَارِ وَاسْتِيعَابِ المتَغيّرَاتِ الحَضَارِيَّة مَرهُون بِالممكِنَاتِ الَّتِي تُتِيحُهَا المؤَسَّسة الرَّسمِيَّة لِتَأبِيدِ هَذِه اللُّغَة، وَارتيَادهَا مَرَاتِب سَامِيَة، وَهِي تَأخُذُ بِأَيدِي الدَّارِسينَ وَالمعلِّمِينَ إِلى الطَّرِيقِ الصَّحِيح في العِنَايَة بِثَوَابِتهَا وَمَنحهَا الأَرضِيَّة المنَاسِبة الَّتِي تَلِيق بِهَا كَلُغَةٍ حَيَّةٍ وَمُؤَثِّرَة بَينَ لُغَاتِ العَالَم.
إِنَّ مَنزِلَةَ لُغَتنَا تَتَحَقّق مِن خِلال الاهْتِمَام بِمُفرَدَاتِهَا، فَحَيَويتهَا صنْو الأَدَوَات المعَبِّرَة عَن أَبعَادِهَا وَأَنسَاقِهَا، وَالرُّجُوع إِلى قَوَانِينهَا في صِنَاعَة الخِطَاب اليَومِيّ؛ فَاللُّغَة أَلفَاظٌ وَقَوَانين مَحكُومَة بِضَوابِطَ عِلمِيَّة لا يُمكِنُ التَّسَاهل فِيهَا،أَو تَجَاوُزهَا بِحُجَّة الصُّعُوبَة، أَو الاخْتِلاف عَن اللُّغَات الأُخرَى.
إِنَّ اللُّغَة كَالكَائِنِ الحَيّ تَحتَاجُ إِلَى الرِّعَايَةِ وَالتَّطَوُّر، وَهَذِه الرِّعَاية لم تَأتِ مِن فَرَاغ، فَالأَحكَام الَّتي يَستَنِدُ إِلَيهَا أَفرَادُ الجَمَاعَة في ضَمَانِ التَّوَاصُل مَعَ اللُّغَةِ تَتَأَتَّى بِانْتِهَاجِ القَوَاعِد وَالأُصُول الصَّحِيحَة بَينَ المتَكَلِّم وَالمتَلَقِّي، أَحَدهُمَا يَلتقطُ رِسَالَة الآخر من دُون أَن يَكُونَ هُناكَ نَوعٌ مِن الغُمُوضِ أَو الالْتِبَاس في هَضْمِ هَذِه اللُّغَة بِوَصفِهَا نَشَاطًا اجْتِمَاعِيًّا وَإِنْسَانِيًّا يُسهِمُ في نَقْلِ التَّجَاربِ وَالممَارَسَات اللُّغَوِيَّة مِن الحَاضر إِلى الأَجيَالِ المقبلة.
فَالحِفَاظُ عَلَى اللُّغَة يَنبغِي أَن تُرَافقه إِرَادَة تَسهَرُ عَلَى تَقوِيمهَا وَتَنمِيتهَا وَمُوَاكبتهَا للخِطَابِ الإِنسَانِيِّ، وَتَأهِيل الْمَلَكَةِ الإِنسَانِيَّة لَدى النَّاطِقينَ بِهَا، فَأُمَّتُنَا قَادِرَةٌ عَلَى صِيَانَةِ هَذِه اللُّغَة مِن الانكفَاء وَالتَّقَهقُر بَعْدَ أَن أَكَّدَت التَّجَاربُ أَنَّنَا نَتَطَلَّع إِلى صَحوَةٍ لُغَوِيَّةٍ تَكبَحُ جِمَاحَ المغرِضِينَ، وَتَأخُذُ بَأَيدِينَا إِلَى مُوِثِّبَاتِ النُّهُوضِ بِهَذِه اللُّغَة وَالتَّخَلِّي عَن الشُّعُورِ بِاليَأْسِ وَالإِحبَاطِ.
إِنَّ لُغَتنَا تَمُرُّ بِمنَاخٍ مُشَوَّشٍ، بَعدَ أَن سَادَت اللَّهجَة الدَّارِجَة في لُغَة الصَّحَافَة اليَومِيَّة وَالفَضَائِيَّات الَّتي لا تَعبَأ ُبِإِفسَادِ الذَّوقِ العَامِّ بِالترَّكِيزِ عَلَى الأَدَب الشَّعبِيّ، وَمُصَادَرَة الفَصَاحَة عَلَى أَلسِنَتِنَا، وَجَعْل أَجيَالِنَا الجَدِيدَة لا تُمَيّزُ بَينَ العَامِّيّ وَالفَصِيح.
كَمَا أَنَّ الكَثِيرَ مِن هَذِه المنَابر تُحَاولُ أَن تَجِدَ لهَا مُسَوِّغَات لِتَبرِير هَذِه الصُّورة المزْدَوجَة وَالظَّوَاهر الشَّاذَّة في مُحِيطِنَا الإِنسَانِيّ، وَتَبَنِّي العَامِّيّة كَلُغَةٍ للسَّوَادِ الأَعظَم حَتَّى تَسَلَّلَت أَغْلَب هَذِه الممَارَسَاتُ إِلَى الجَامِعَاتِ وَالمنَابرِ الثَّقَافِيَّة وَالإِعلامِيَّة المهمَّة.
وَهَكَذا فَقَد أَبدَى بَعضُ المتَطَفِّلِين عَلَى هَذِه اللُّغَة دَعوَات لإِلغَاءِ العَلامَاتِ الإِعرَابِيَّة مِن بنيَتِهَا التَّكوِينِيَّةِ، مُتَنَاسِينَ أَن قُدسِيَّةَ هَذِه اللُّغَةَ تَكمُن في تِلكَ الحَركَاتِ المقَنّنَة الَّتي لم تَكُن وَقْفًا عَلَى الأَدَب، بَل إِنَّ مَوقِعَهَا مِن الجُملَة يُعد مِن مَعَايِيرِ القَضَاءِ، وَحَيثيَّات الحُقُوقِ الإِجرَائِيَّة، فَلَم يَعِ هَؤُلاءِ الجُهَّال أَن (الإِعرَابَ هُو فَرْعُ المعنَى) كَمَا يُقرِّرُ ذَلكَ اللُّغَوِيُّون.
إِنَّ ضَيَاعَ المقصدِ وَغِيَاب الدَّلالَةِ الإِعرَابِيَّةِ كَافِيَانِ لِتَأوِيلِ المرَاد بِأَوْجُهٍ عَدِيدَة لَدَى المتَلَقِّي، فَكَيفَ لَنَا أَن نُغَادِرَ هَذِه الظَّاهِرَةَ اللُّغَوِيَّة الَّتِي تُضفِي عَلَى مَنظُومَتِهَا دِقَّةً في الْتِقَاطِ المعنَى، وَسُمُوًّا في بَسْطِ الجَمَالِ…
أَقُولُ: إِنَّ هَذِه الدَّعوَات القَدِيمَة الجَدِيدَة لَن تَنَالَ مِن لُغَة القُرآنِ الكَرِيم فَقَد سَبَقَهَا في الماضِي القَرِيب دَعوَاتٌ لا تَخْتَلِفُ عَن هَذِه الدَّعوَة لِيُوسُف الخَال وَتَوفِيق صَايغ في لُبنان وغيرهما؛ حَيثُ أَسَّسوا في بَيَانَاتِهم أَفكَارًا وَمَوَاقِفَ لِمُغَادَرَة التُّرَاثِ، وَاعْتِمَادِ اللُّغَةِ المحْكِيَّةِ في التَّخَاطُبِ وَكِتَابَة الأَدَب، غَيرَ أَنَّ هَذِه الدَّعوَات بَاءَت بِالفَشَلِ، وَانْطَفَأَت قَبْلَ أَن تَنهَضَ مِن الْمِضْمَارِ، وَبَقِيت لُغَةُ القُرآنِ الكَرِيمِ هِيَ الأَسْمَى.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة