الوعي الذاكراتي لمعطيات الزمن في(خدوش) الركابي

علوان السلمان

..الاشكال الشعرية بتنوعها البنائي الكاشف عن الممكنات الجمالية بابتكار الصور والتعابير والتشكيل الايقاعي والمضامين الانسانية التي تستفز الذاكرة وتنبش خزينها المعرفي.. غرضها الاسمى تحقيق المتعة والمنفعة..
وباستحضار مدونة الشاعر فليح الركابي(خدوش في ذاكرة الزمن)التي حاك خيوطها النصية ببناء شكلي متجاوز..واسهمت دار امل الجديدة في نشرها وانتشارها/2016.. كونها تنقش عوالم الروح والهم الانساني على بياضاتها المعبرة عن مكنونات الذات القائمة على الاحساس بوقع الكلمات (من حيث تشكلها وصداها لا من حيث المعنى) على حد تعبير جان بول سارتر..فكانت مغامرة تجريبية..رائية..متجاوزة ببنائها..مشحونة بايحاءاتها الخالقة لصورها التخييلية في قيمتها الاجتماعية وموقفها الانساني..فضلا عن قيمتها الجمالية الجاذبة عاطفيا واشاريا..اضافة الى ايقاعها الوجداني ومضمونها بابعاده(الاجتماعية والنفسية..).ابتداء من العنوان المفتاح التأويلي والايقونة الدلالية التي تستجلي مكامن النص لتحقيق دورها التنبيهي والايحائي والاختزالي..فتسهم في فك مغاليق الخطاب الشعري..كونه دلالة منتزعة من مكنونات النص وتشكيله تم اختياره وفق معايير ذاتية كي يحقق البعد الفكري والتاريخي للمتن..
ياسيدي/انت المرفيء كلها
ولصوبكم
قد ابحرت شطآن
القيت ساريتي/وجئتك زاحفا
للصبر../للايمان
قد اعطيتها/ياسيدي
بسخائكم/تتحدث الازمان
والاكون /ص10 ـ ص11
فالنص بايحاءاته التصويرية يجر المخيلة بصوره المشهدية ذات التعابير المشبعة بموسيقاها المضافة..المنبعثة من بين ثنايا تراكيبه المتميزة بايجازها الحكائي وعمقها الدلالي الذي يكشف عن مكنون الذات اتجاه الآخر ببوحها الوجداني المنطلق من مرجعيات فكرية وروحية اسهمت في اتساع عوالم النص وصوره المنصهرة في بوتقة تراكيبه الجملية في السياق والمواجهة الدلالية وفق دوافع نفسية تتفاعل عناصرها الفنية والتجربة الذاتية للتعبير عن الحالة الذهنية والاستقرار في الادراك الحسي لما يحمله من دلالات سيميائية عبر مجموعة من الدوال المتلاحقة..
ايها المنفي/في برلين/دون وعي
كنت جلمودا/وطين
باحثا في مهملات
عن حكايا/بائسات
ربما/عن حلم
أو ربما/سر دفين
كنت تحكي
لغة
للقادمين /ص54 ـ ص55
فالجملة الشعرية في خطاب الشاعر تتنوع اشكالها ولا تخضع للمعايير المتداولة..اذ تميزها بالتدفق الخيالي والتشكيل البلاغي والمكنون السردي الشعري الذي يكشف عن اغتراب الآخر..بتوظيف الفنون الحسية والبصرية والمكانية لخلق عوالمه الشعرية..اضافة الى استخدامه تقانات فنية كسيميائية التنقيط التي تحيل الى علامة من علامات الترقيم(دلالة الحذف) التي تشكل نصا صامتا تتعطل فيه دلالة القول..اضافة الى انها تضفي بعدا تشكيليا وتفتح باب التأويل باستدعاء المستهلك(المتلقي) لفك مغاليق البياض وملىء فراغاته القائمة على اساس جمالي قوامه اللمحة الفكرية المبنية على المتضادات وتشكيلاتها بلغة تشكل وسيلة وغاية في حد ذاتها والتي يعمل الشاعر على تفجير قدرتها الايحائية والانزياحية كي يكشف عن وظيفتها الجمالية..هذا يعني ان الشاعر يختط لنفسه مسارا ينطلق من الخارج كمصدر للتجربة صوب الداخل الذي يعيد تشكيله ويرسم ابعاده المكتنزة بملامح الذات لتحقيق فعل الكتابة..بصفتها نوع من(ممارسة الحرية).. فيقدم نصا معبرا عن هم انساني بمخيلة متدفقة تحول الفكرة الى صور متوالدة من تصادم الثنائيات الضدية..كون الصورة الشعرية وسيلة الشاعر لانجاز وظائف نفسية وتأثيرية وتخييلية..مع غوص في اعماق الذات…
انت الذي/بضيائه../ولد الهدى
اشرقت فجرا باسما..
ولسبطكم أوقدت صبحك
تلك النجوم../تنافست../يا سيدي
لكريهة..اسرجت جرحك
في فتية../ورد الردى
من بأسهم.. فجنيت ربحك
غرسوا الدماء/على السيوف/فأورقت..
وعلوت رمحك
ملك الفؤاد هواكم
فجرت مدحك /ص83 ـ ص84
فالنص على المستوى التخييلي يتجلى بتماهي المنتج(الشاعر) متدفقا واخلاصه لمبتغاه(الحسين) بتدفق وجداني منبعث من دائرة الوعي الشعري المكتظ بعوالمه الصورية ودلالاته الموحية بتقنيات فنية كالرمز الاستعاري الذي هو اداة فكرية للتعبير عن قيم غامضة لغرض تصعيد التكنيك الشعري الذي فيه تسمو التجربة الشعرية فتتحول الصورة الى رؤيا تستمد نبضها الدافق من الذاكرة الذاتية والموضوعية بتوليفة تجمع ما بين التخييلي والواقعي من جهة واستحضار الازمنة بشخوصها واحداثها من جهة اخرى..
لتأسس ذاكرة قائمة على دائرة نصية مغلقة تعبر عن فكرة مركزية تدور حولها الاحداث.. مع توظيف سايكولوجية التواصل الشعري عبر صور تمزج الحلمية بالخيالية في سياق حسي مقترن والحياة بكل موجوداتها..عبر ذهنية متحفزة..خالقة لنصها برؤية تلخص الواقع واشياءه ببوح وجداني ونزوع انساني..مع تفاعلها والهم الاجتماعي بنزعة وجدانية ورؤية متجاوزة في خلق الصور المعرفية المستفزة لذهنية المستهلك(المتلقي) للاجابة عن اسئلتها باستنطاق صورها والكشف عما وراء الفاظها الرامزة وتشكلها المشهدي الجمالي الرافض للتأطير والموقظ لمكامن الشعور بجمله المجازية التي لا تخضع لمعيار دلالي..
يعقوب ثانية
يعقوب ثالثة
يعقوب رابعة
يعقوب أخرى..عائد لي من بعيد
يعقوب
يولد كل يوم
فيفعل ما يريد
والجب ياكل اهلنا
متسائلا
هل من مزيد /ص77
فالنص يترجم الحال الواقعي متناصا والنص القرآني(سورة يوسف) من خلال تزاحم صوره الموحية بتوق للتوحد بين المنتج والرمز التاريخي باجواء محركة للحواس الشعورية وائتلاف الجمل والتناغم الصوري والايقاعي الذي ياخذ نسقه من عاطفة النفس الغارقة في الوجد عبر فضاءات منفتحة على آفاق دلالية وتاريخية خالقة لخطابها ببنية يغلب عليها الانزياح الذي يكشف عن امتلاء المخيلة المنتجة بالمعطيات الحسية..
وبذا قدم الشاعر نصوصا شعرية تتسم بالوعي الفكري من خلال موقف دارس لمعطيات الزمن وهي تقوم على بنيات متعددة..منها..البنية التشكيلية والبنية الايقاعية..المبثوثة على امتداد شبكته المشهدية المتسمة بالزمكانية والحدثية وحوار الذات(المنولوجي) .. مع استدعاء تقانة الاسترجاع من خلال الذاكرة التي تزيح الرؤية البصرية لصالح الرؤية الذهنية..اضافة الى توظيف التراث في زمكانية متحركة داخل أطر دلالية تنحصر في(الذاتي/ التاريخي/الكوني..) ببناء يتجاوز النسق المتداول بنثر التفعيلات كي يوهم المستهلك(المتلقي) بحداثية النص مبنى ومعنى..فضلا عن ان هذا البناء التشكيلي يوحي بنزعة درامية وصراع الموجودات والقيم مع تجاوز الزمن الواقعي..وهو يبني شعريته على عالمين مكانيين متداخلين:اولهما مكان الذاكرة وثانيهما مكان الواقع بموجوداته..ومن خلالهما تتشكل حركية التجاذب والتنافر بين الذات والموضوع..

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة