(منذ نشأتِها حتى العام 1992م)
القسم الرابع
د. عبد الرضا علي
إنَّ نقدَ المحروقِ لشعر شاذل وإنْ كان نقداً لاذعاً في بعض جوانبه ، إلاّ أنه كان يصدرُ عن نفسٍ صادقةٍ ، فهو صديقٌ حميمٌ لشاذل ، لكنَّ وجهةَ نظرهِ النقديةَ لم تتأثرْ بتلك الصداقةِ ، فكانت موضوعيةً فيما تؤمنُ به ، وإنْ تقاطعَ المتلقي معها ، لأنّ أولَ شرطٍ في النقد الجادِ هو قولُ الحقيقة ، والابتعادُ عن الضغينة ، واللؤم ، والمحاباة والمداهنة . وليس هذا غريباً على المحروق ، فهو شاعرٌ قبل أن يكونَ ناقداً ، وهو من جيلِ الروّاد الأوائل الذين بشروا بالشعر الحرِّ ، وإنْ نسيَهُ النقدُ، فقد كان مع زميله شاذل يسهمانِ في حركةِ الحداثة منذُ نهاية الأربعينيات .
إنَّ منطلقاتِ المحروق النقدية جريئةٌ ، قال فيها ما يؤمنُ به على نحو من الصراحةِ والوضوح من غيرِ أنْ يخشى في نقده أحداً ، فكان أنْ سارَ على نهجِه هذا في كل ما كتبهُ من نقد بعدئذٍ ، وهو كثيرٌ ، إلا أنه لا يخرج عن هذه المنطلقات التي تدعو إلى الحداثةِ ، والابتعاد عن التقريرية، واجترار الصور القديمة، وتقليد الأقدمين ، لأن الشعر الجيد هو ما كان صورة صادقة لهموم العصر الذي يعيشه الشاعر، وإشكالاته الراهنة ، بعد أن يكون تعبيراً عن تجربة صادقة تحمل عواطف قائلها وأخيلته، وأفكاره، بإيقاع مناسب، ومن تلك المقالات: ((أغاني الربيع)) ، و((أجنحة النور)) ، و((رياح وشموع) ، و ((زامر الحيِّ ..لا يطرب)) ، و ((لحظات قلقة) ، وغيرها .
أما زملاءُ المحروق، ومجايلوهُ فقد شاركوا في نقد النصِّ الشعريِّ الحديث على مستويات ، فالشاعر منهم ينظر إلى النصِّ الذي يتصدى له على وفقِ أفكاره هو ، وموقفهِ الذاتي من الموضوع المطروح، والناقد اللغويُّ يقف عند مفرداتٍ أو عباراتٍ يراها تزري بالنصِّ، في حين يغلِّبُ بعضُ دارسي النصوصِ الشعرية انطباعاتِهم النقديةَ الخاصةَ على عمومِ التجاربِ، وإنْ تقاطعتْ منطلقاتُهم مع منطلقاتِها في حقيقة الأمر .
فأحمد محمد المختار (وهو شاعر ملتزم) كان يريدُ من الشعراءِ أن يقتربوا من مجتمعهم ، وألاّ يستغرقوا في الحسرات ، والآهات ، لأن تلك الاتجاهات مرغوب عنها ، لذلك دعا في نقده لديوان ((قيثارة الريح)) الشاعر إلى الالتفاتِ إلى أهميَّة الشعر الاجتماعيِّ الذي ((يعكس صور الحياة وواقع الإنسانية المترديِّة… تحت صخور العذاب والهلاك ، والمتقلبة على الشقاء والعناء)) كما دعا إلى الابتعاد عن التشاؤم والحيرة .
أمَّا ((جلال الخياط)) فحين تصدَّى للديوان نفسه حاول أن يجعلَ من النصوص الشعرية دليلاً له في منطلقاته . ومثل هذا النقد يخدم جميع أطراف العملية النقدية، لأنه لا يرسلُ الكلامَ جزافاً، إنَّما يستقرى النصوصَ وصولاً إلى الملاحظ النقدية ، فكانت ملاحظهُ تشيرُ إلى أنّ حياة الشاعر كانت مليئةً بالألم ، لذلك كانت صورةُ هذه الحياة في الشعر سوداءَ قاتمةً مرعبة ، وخلص إلى أنّ الشاعر كان متأثراً بشعر المهاجر ، ودفع عنه التهمة القائلة :((شعره ذاتي لا يعبر عن روح العصر)) بقوله : ((إنَّ الأدبَ الصحيح الصادقَ سيحيا ويخلد سواء أكان ذاتياً أم معبراً عن الحياة، على ألا يكونَ الأديبُ متطرفاً مغاليا في تطرفه)).
أمَّا أحمد الفخري فحين تصدى لـ ((قيثارة الريح)) ناقداً خلص إلى النتائج الآتية:
• قدرة الشاعر في التصوير.
• تأبى مخيلة الشاعر أن تكرر الصور ، أو تقيدها .
• جدد الشاعر في الأساليب ، وانطلق في الأوزان.
• عاب على صور الشاعر ما يكتنفها من ضبابية ورمزية.
• خلص إلى أنّ حرمان الشاعر من السعادة هو الذي قاده إلى البؤس .
وكل تلك الملاحظِ النقديةِ كانت حصيلة نقده التطبيقيِّ ، وإخضاع شعر الشاعر إلى التحليل والتفسير ، غير أنّ ما يستحقُّ الإشارةَ في تلك الملاحظ ما ذكره في قضيَّةِ الصورة الفنيَّةِ، إلى جانب إشارته الواضحة إلى التجديدِ في الشكل ، والإيقاع ، لكون الشاعر كان قد نظم قصيدتين من الشعر الحرِّ، وإنْ لم يصرِّحْ بذلك ، فضلاً عن أنّ الناقد كان يرى ذلك ((انطلاقاً)) ، أي هو أقربُ إلى مصطلح الشعر المنطلقِ منه إلى الحرِّ في قوله: (( وستجدُ فيه تجدّداً في الأساليبِ وانطلاقاً في الأوزان، واختياراً دقيقاً للألفاظِ الموسيقيَّةِ الملائمة)) . لأنّ المصطلح لم يكنْ آنذاك قد استقرَّ .
أمّا سامي طه الحافظ في مقالته النقدية ((مع المحروق في قيثارته)) فقد اختلف مع الجميع : منطلقاتٍ ونتائجَ ، يمكن أن تتلخص فيما يأتي :
1 ـ حكمَ على الشاعر بالذاتيةِ المجرَّدةِ ، أو بالأنانية .
2 ـ رفض فكرة ((الفن للفن)) ورآها قد ماتت ، لأنه يعيش في عصر يسعى إلى التحرر والانطلاق والحرية ، ولا يكون ذلك على وفق ما يرى إلاّ إذا قدَّمنا أرواحنَا ومواهبنَا فداءً في سبيله .
ثم رأى في تراجعِ قبَّاني والبيَّاتي (؟) عن شعرهِما الذاتي نحو تصوير المجتمع ما ذهب إليه من منحى .
3 ـ إنَّ الشاعر كان متأثراً بعمر أبي ريشة ، لكنَّ هذا التأثرَ كان إلى حدِّ الوقوعِ تحت طائلتهِ: صوراً وقوافيَ ، كما أنهُ كان قد تأثر تأثيراً واضحاً بالشاعر ((فؤاد بليبل)) في ديوانه ((أغادير الربيع)) إلى حدِّ التشابه أحياناً .
4 ـ عاب على الشاعر تركهُ الوطنَ نحو الحبَّ ، والجمال .
ولمّا كان المرحوم هاشم الطعان قد خصَّ ((قيثارة الريح)) بملاحظ نقدية لا تخلو من احتفاء ببعض صوره الشعرية ، وفي فحص النصِّ ، ودراسته ، وتبيينِ ماله ، وما عليه، فقد رأى في نقد الحافظ تجنياً على الشعر ، فكتبَ ردَّاً على نقد الحافظ رجاهُ فيه ألاّ يقضي بإعدامِ البلبل (كنايةً عن الشاعر) لأنَّ الحياةَ تصبحُ جافةً دون أغاريدهِ .
على أنَّ المتلقِّي يجدُ في مقالةِ الطعَّانِ النقديَّةِ الأولى ما ينمُّ على موضوعيَّةٍ علميَّةٍ واضحة، فهو بعدَ أنْ حيَّا الديوانَ، وشاركَ في عرضهِ، وبيَّنَ مؤثِّراتِ الشاعر، وقفَ على بعضِ صورهِ مناقشاً، رافضاً ما لا ينمُّ على براعةِ في البناءِ، فضلاً عن أنّهُ رأى في قبولِ الشاعرِ للسنادِ في ((رَوحٌ ونوح)) و ((الموج والهوج)) في قولِهِ:
بــلْ أنا روحٌ مفعمُ الأســرارْ
وقولهِ :
خافقي المـسعورْ كهديرِ الموجْ
هلْ وعى المقدورْ صرخاتي الهوجْ ؟²
ما يُعيبُه في التقفيةِ. كما رأى في إيرادِ ((عرضاً وطولاً)) قافيَةً مبتذلةً في قولِهِ :
أيُّها الشاعرُ الذي يتغنَّى تهتَ في الكائناتِ عرضاً وطولا
مختَتِماً مقالتَهُ النقديَّةَ بالطلبِ إلى الشاعرِ أنْ يئدَ قصيدةَ ((ملهمتي)) لأنَّ المطلعَ:
حبيبتي لا تحجمي عنِ اللقاءِ…واقدمي
لا ينمُّ على أيَّةِ براعةٍ… كما أنَّ إيراد لفظة ((المعدمِ)) في قولهِ :
فقيلَ لي: حوريَّة ٌ تأسرُ قلبَ المعدمِ
قلقةٌ في البيتِ؛ أمَّا ((النيسمِ)) في قولِهِ :
وبسمةُ الأكمامِ في روضٍ زكيِّ النيسمِ
فهيَ من مهجورِ اللغةِ. وهيَ ملاحظُ نقديَّةٌ جوهريَّةٌ في بناءِ القصيدةِ معنًى ومبنى.
إنَّ نقدَ النصَّ لم يكنْ ليخرُجَ عمَّا ذكرناهُ من ملاحظ، ولم يكنْ نقداً من غيرِ تجليّةِ فكرٍ، أو وجهات نظر، وإن بدا فيهِ أحياناً ما ينمُّ على تبرُّمٍ، وقسوةٍ ؛ لأنَّه نقدٌ كانَ يتصفُ بالموضوعيّةِ والأمانةِ، ومحاولةِ خدمةِ الإبداعِ وصولاً إلى تحقيقِ صورةٍ مثلى لما ينشدُهُ الشاعرُ الحديثِ من تجديد، وتجاوز. وعلى وفقِ هذا كانت دراساتُ ((أكرم فاضل)) ، و((بشير حسن القطّان)) ، و((سامي أمين)) ، وغيرهم.