د. محمد حسين حبيب
«الفوضى تتسلل في مسارحنا بصيغ متنوعة بحسب التطورات التنظيرية والتطبيقية لصياغة أو تشكيل فضاء العرض المسرحي المعاصر».
خطأ إشراك غير أهل المسرح في أي عمل يتصل بالمسرح.
لم يكن المخرج الانجليزي ادوارد غوردن غريغ مصلحا اجتماعيا او طبيبا حين كتب عام 1905، عن «الاتجاهات الخبيثة في المسرح الحديث»، بل كان تواقا لتنقية المسرح من الطفيليين والطفيليات بحسب تعبيره, لا في المسرح الانجليزي فقط، بل في كل مسارح الدنيا قاطبة, ذلك ان كل هذه المسارح وبحسب قوله: «هي سواء في كل شيء إذا استثنينا اللغة .. ثم واسفاه .. ان الطفيليات يشبه بعضها بعضا شبها شديدا، حتى لتثير هذه الظاهرة ضحكنا».
يبدو ان لكل عصر مسرحي أمراضا خبيثة ينتجها واقع الحال، ويستكشفها التواقون أيضا وهم من ورثة (غريغ) نفسه، من اجل تنقية الأجواء المسرحية من هذه التوالدية الطفيلية المتعاقبة ايضا بوصفها ظاهرة سرطانية يتوجب تشخيصها والسعي مباشرة لإيجاد العلاج المطلوب لها، برغم ان من بين هذه الامراض او الاتجاهات الخبيثة هي ذاتها وتتكرر في كل عصر مسرحي، ومنها ما يتم استحداثه تبعا لتطور العقل الطفيلي بما يحيطه من فضاءات وتكوينات محفزة لتنشيط هذا المرض أو ذاك الاتجاه الخبيث.
من المهم التعرف أولا الى الاتجاهات الخبيثة في المسرح، تلك التي رصدها وشخصها (غريغ) قبل مائة عام واكثر، وكتبها على حد قوله: «كما يكتب احد المتفرجين، بل اني لا اكتب كما يكتب متفرج عادي، او متفرج سريع الضيق، ولكني أكتب كتابة الرجل الذي يهوى ملاحظة نمو النبات في خميلة جميلة. وعين مثل هذا الرجل تستلفتها الحشائش الطفيلية من فورها، ولن يبدو في عينه شيء بالغ مبلغه من الخرق والفظاعة كما تبدو هذه الطفيليات التي تمتص الخير من تربة الخميلة، فهي تحرم نباتاتها من ذلك الخير، ثم تشوه جمال الحديقة. على ان هذه الطفيليات، وأعني بها الاتجاهات الخبيثة للمسرح الحديث، هي موضع اهتمامي هنا.»
ثم يبدأ غريغ بوضع عنوانات تضمينية نوردها بحسب تسلسلها في الأصل:
– الطفيليون والمسرح
– علة المسرح إشراف غير الفنيين على اموره
– العلاج هو تحقيق الوحدة في الفن المسرحي
– كيف تنعدم الوحدة الفنية في المسرح
– الحاجة الى المدير الكفء الملم بكل فنون المسرح
– من هم مساعدو المدير .. الريجيسير؟
– خطأ القائمين بالاصلاح المسرحي في المانيا
– خطأ اشراك غير أهل المسرح في أي عمل يتصل بالمسرح
– مصور الاستديو لا يصلح لرسم المناظر المسرحية
– العجلة عدو الفن الأكبر
– الدسائس في جو المسارح تقضي على كل أعماله الفنية
– انحطاط الأخلاق بين الملتفين بالمسرح انحطاط بمنزلة الممثلين
– الطفيليون يحلون محل رجال المسرح في المسرح
– الواقعية ايضا
– الواقعيون لا يقلدون من الواقع إلا قبائحه
– الشباب أمل الإصلاح بشرط ألا ينهجوا نهج العجائز
– الفن المسرحي اليوم لا ضابط له.
جميع هذه العنوانات الثانوية التي ضمنها (غريغ) في فصله الطويل هذا، والتي عدها بمنزلة العلل أو الاتجاهات الخبيثة في المسرح الذي عاصره هو في زمنه وقبل ما يزيد على قرن أو أكثر من زمننا الحالي، الى جانب شروحاته وتفصيلاته وامثلته عن كل عنوان أو علة كان (غريغ) قد احتكم اليها بالتشخيص والتحليل سعيا منه للتنبيه اليها والقضاء على آفاتها ونتائجها المستقبلية المميتة وإيجاد البدائل الموضوعية والحلول الشافية التي من شأنها توعية وتنوير الاجواء المسرحية وتنقيتها من هذه الشوائب المرضية بهدف إصلاح ما يمكن إصلاحه.
أما اليوم .. ونحن نعيش بداية الالفية الثالثة من القرن الحادي والعشرين .. نحاول قراءة هذه الأمراض القديمة بعين آنية وجديدة, مقرنين بينها وبين الواقع المسرحي اليوم، محليا أو عربيا، آخذين بنظر الاعتبار جميع التطورات المسرحية الجديدة على صعيد الفكر والنقد المسرحي بكل تحولاته الحداثية وما بعدها من جانب، وعلى صعيد الرؤى النصية والإخراجية والأدائية والتقنية بجميع ابتكاراتها المعاصرة من جانب آخر، والتي سايرت الثورات العلمية والتكنولوجية، حتى وصلت اليوم لصناعة خطاب مسرحي صوري وتشفيري تحلق فيه الجماليات والعلامات فيه والرموز المرئية والسمعية ايما تحليق، ولدرجة السحر أحيانا.
قد لا نختلف كثيرا كما نوهت مقدما بان لكل عصر مسرحي أمراضه الخاصة به، لكن وبالمقارنة اليوم مع الامراض التي شخصها (غريغ) نكتشف ان من بين تشخيصاته، لما تزل بيننا هذه الأمراض وهي تجدد نفسها علنا وكانها ولدت مع المسرح ولا تعرف كيف تموت، أو لم يتوافر الى اليوم اكتشاف العلاج اللازم لها والكفيل بالقضاء عليها تماما .. منها مثلا (الطفيليون) وعلاقاتهم السلبية مع المسرح .. اولئك الذين ينحرفون بجمال المسرح الى نوايا شخصانية مقيتة منها مادية تجارية ربحية حصرا، ومنها نوايا مؤسساتية مناسباتية مؤقتة ينتهي المسرح فيها بنهاية المناسبة التحزبية او الاعلامية او الدعائية، لنكتشف لحظتها كيف استغل اولئك الطفيليون المسرح لتحقيق مآربهم الشاذة عن المسرح واهدافه ونواياه الاصل التي جاء من اجلها. وهم فعلا أي (الطفيليون) من زمن (غريغ) الى يومنا هذا يحلون محل رجال المسرح في المسرح.
وعند قراءة الكيفية التي وضعها (غريغ) لتحقيق الوحدة في الفن المسرحي نتلمس الضدية مباشرة وإحلال الفوضى بديلا عنها، فيضع قائمة بأسماء العاملين في المسرحية جميعهم بدءا من مدير الادارة الى جانب مديري آخرين ومرورا بأرباب العمل ثم تصنيفات الممثلين وغيرهم من الفنيين والمصممين وصولا الى صغار العمال ومصوري المناظر وعمال آلالات والكومبارس من الرجال والنساء وعمال النظافة .. لنجد أنفسنا ازاء سبعة رؤساء وعضوين لهما سلطات كثيرة جدا «سبعة مديرين بدلا من واحد وتسعة آراء بدلا من رأي واحد «فيقول: «اما والحال هذه، فمن رابع المستحيلات إنجاز عمل من أعمال الفن يتولى زمامه اكثر من راس واحد» وقبل ذلك يؤكد غريغ أيضا قوله: «وعندما اسرد لك افراد القائمة فساذكر لك كم من هؤلاء العمال من ينصب نفسه رئيسا للطهاة، وكيف انهم يتعاونون جميعا على افساد الطبخة كلها».
يبدو ان هذه الفوضى تتسلل اليوم في مسارحنا بنحو آخر وبصيغ متنوعة بحسب التطورات التنظيرية والتطبيقية لصياغة أو تشكيل فضاء العرض المسرحي المعاصر والتي قلما تتواجد الوحدة الفنية في هذا العرض أو ذاك، بسبب تشتت الرؤى وتعدد الاراء. فما الذي يمكن أن يضيفه مثلا اليوم وجود ما يسمى بـ (المشرف العام) او (المشرف الفني) على وحدة العمل الفني؟ والحال نفسه مع وجود عمل (مصمم السينوغرافيا) الى جانب المخرج المسرحي؟ وايضا نجد احيانا وجود ما يطلق عليه (الدراماتورغ) ليعمل في ذات العمل الفني نفسه مع الاخرين .. مثل هذه التعددية تنتج أحيانا فوضى من شأنها فقدان الوحدة الفنية داخل العمل الواحد، الا اذا انصاعت هذه التعددية التنظيرية والتطبيقية تحت لافتة الرؤية الاخراجية الموحدة، فنكون حينها في المنطقة الفنية التي سعى اليها (غريغ) في زمنه، مثلما حاولنا السعي اليها اليوم.
ما مواصفات المدير الكفء للدائرة او المؤسسة المسرحية؟ وهل يمكن اليوم فعلا الحصول على مدير مسرحي ملم بكل فنون المسرح؟ هكذا كان (غريغ) تواقا او حالما ليجد هذا المدير .. وها نحن اليوم زدنا الطين بلة .. وضيعنا توق غريغ وحلمه عبر القصدية المميتة في أن لا نعمل تحت قاعدة «الرجل المناسب في المكان المناسب»، لان المنصب الاداري (الفني والمسرحي) صار تحت امرة الساسة والتحزبية والتوافقات الشاذة تماما عن التوجه الفني الاصل. لنجد أنفسنا اليوم في أتم الحاجة الى رسالة (غريغ) التنويرية والتي سميت برسالة الاصلاح المسرحي، تلك الرسالة التي تعرضت الى الاستهزاء بها وبكاتبها من قبل فناني المسرح الانجليزي لأنها موجهة لهم مثلما هي رسالة إصلاحية موجهة الى مسارح اوربا واميركا, ومما جاء فيها:
«أن تهدم هذه المسارح جميعا، وأن يسرح ممثلوها ومديروها ومخرجوها وعمالها وخدمها الى منازلهم. ثم يظلون فيها الى ان يتوفاهم ملك الموت .. والى ان ينشىء الله قوما آخرين يفرغون طوال حياتهم لدراسة المسرح .. بعد ان تنشأ لهم مسارح جديدة، يشترط هو ان يولدوا فيها، ويشبوا بين أركانها، قبل ان يؤذن لأحدهم بان يتولى أي امر من أمورها، صغيرا كان أو كبيرا».
ما أحوجنا اليوم الى هذه الرسالة أيها الاصدقاء .. وما أحوج نشرها واعمامها على جميع دوائرنا ومؤسساتنا المسرحية .. ما أحوجنا اليك اليوم يا (غوردن غريغ) العظيم.
وبانتقالنا الى عنوان تضميني آخر وهو متصل بما تقدم ليكملا بعضهما البعض وهو «خطأ إشراك غير أهل المسرح في أي عمل يتصل بالمسرح» والا سنكون كمن ذاك «الذي اضاف جرحا جديدا الى جثة مهشمة» بحسب وصف غريغ نفسه والحالة هذه. ثم تكمل لنا العجالة او الاستسهال في انجاز العمل الفني مرضا مرتبطا بما تقدم، لنصل الى الآفة المدمرة بفعالية كبيرة لمسرحنا وهي (الدسيسة) والتي هي فعلا من شأنها ان تأكل الاخضر واليابس معا من أعمالنا الفنية اليوم وتميت صفاء النيات الآدمية الشريفة والمنتمية لمسرحها بحق.
إن المسرح أصلا ضد (الدسائس)، بل هو يعمل على مسرحة الدسيسة وكشف براثنها الخبيثة دراميا، فكيف بهذه الدسيسة اذا حومت على المسرح والمسرحيين؟
وبعد تضمينه وتأكيده على الأخلاق التي ينبغي وجودها في البيت المسرحي وهذه لا تحتاج الى قراءة اليوم لبداهة الاتفاق عليها في الوعي الجمعي للمسرحيين برغم ربكتها والتضييق عليها وعلى توافرها الذي ينبغي بهيمنة كبيرة، ينتقل (غريغ) ليعلن موقفه من «الواقعية» كاتجاه فني وله في ذلك مسوغاته الموضوعية بوصفه من أوائل «الرمزيين» المسرحيين في العالم.
ليصل أخيرا الى الطليعة المسرحية / الشباب، بوصفهم أمل الإصلاح، شريطة ألا ينهجوا نهج العجائز .. والعجائز هنا ليس المقصود منها السخرية من الكبار والرواد المسرحيين بقدر ما يقصد بها رجالات المسرح الاوائل ممن قدموا في زمانهم ما ينبغي تقديمه، وعلى الشباب تقديم ما ينبغي تقديمه على وفق زمانهم ووعيهم وثقافتهم التي تجانس قضاياهم الإنسانية المصيرية.
ولأن الفن المسرحي لا ضابط له بحسب غريغ وعصره المسرحي ذاك، فجاءت إصلاحاته هذه كاشفة عن الامراض الخبيثة وتسرطنها في الجسد المسرحي، لنعيد نحن معه مرة أخرى ذات الرسالة في أن الفن المسرحي اليوم لا ضابط له ايضا، الأمر الذي دعانا إلى إعادة نص قول غريغ القائل: «ان ما يفتقر اليه الفن المسرحي اليوم .. هو ان نوفر له خصائصه. ان هذا الفن يترامى ويهيم على وجهه بلا ضابط يكبحه، ولا شكل يعرفه الناس به، وهذا هو فرق ما بين العمل المسرحي والفنون الرفيعة، والقول بأنه يفتقر الى الذاتية – او الشكل – يعني انه يفتقر الى الجمال. إذ لا جمال في فن لم تتحدد معالمه.
* نص الورقة المشاركة في المؤتمر المسرحي العراقي الذي أقامته جماعة المسرح المعاصر في البصرة يوم 19 أغسطس/اب 2017.