جنداري الشُرقاطي*

نعيم شريف

لمّا انتهينا إلى السجن الذي ما انتهى/ أوصيتُ نفسي وقلت المُشتهى ما انتهى/ يا واصل الأهل خبِّرهُم وقلْ ما انتهى/ اليوم بتنا هنا والصبح في بغداد» سعدي يوسف
كانت الساعةُ الواحدةُ بعد الظهر، ساحةُ (ميم 3 ) صارت مطبخاً للسُجناء، بعد أن كانت قاووشاً كبيراً، وكان دوري في إعداد الشاي لرفاق الزنزانة. في سكون الظهيرة التموزية يكون سجن أبو غريب صحراء للوحشة الخالصة، السجناء يسيرون أو يجلسون أو يعملون شِبه مُغمضي الأعين، كأنّما الصهدُ يجعلهم يخوضون في غرفةٍ يملؤها البُخار، الحزن في تلك اللحظات لهُ ملمسٌ مادي، كأنك تمسك به بين يديك، تُمررُ عليه أصابعك، هو غيرَ حُزن أول الصباح وليس شبيهاً بحزن الثانية بعد منتصف الليل، هناك، في مقبرة الأماني، للأحزان أوقاتها أيضاً، وأشكالها، ولها طُرقها في افتراسك أيضاً، تنتظرُ جديداً يكسرُ رتابة السجنُ فأنت مثل من يسكن قلعةً في الصحراء، تنتظرُ العابرين كي يُذكروك أن الحياة مستمرةٌ وبهيجةٌ في مكان آخر، الماء في إبريق الشاي يغلي وأنا تحت سقف الإسبست أقاومُ الرغبة في الإغفاء، وبوجهه المبتسم على الدوام، يُقبلُ عليًّ رفيقي، كفاح الآلوسي، المثقف التقدمي وكاتب القصة، لون عينيه الأصفر يُحاول قول شيء، ثم يقف ويقول: محمود جنداري في غرفة الاستقبال!! لم أكن مُتأكداً مما سمعت، قلت: ماذا قلت أبا شهد؟: الكاتب محمود جنداري في السجن، في المحجر، قال. كان خبراً صادماً، الكاتب الكبير ذو المنجز الإبداعي المهم، سجيناً في أبي غريب، لا أحد بمنجاةٍ من غضب الدكتاتور، فكّرتُ بشخصِه، قلت الرجلُ نجمٌ أدبي، بل هو ثاني اثنين مع الكاتب (محمد خضير)، يمثلان المنجز القصصي العراقي الناضج والذي حلّق عالياً في سموات بكرٍ، لم يطرقها السرد العراقي من قبل، كُنّا قد قرأنا لهُ في مكتبة السجن، مجموعته القصصية الثانية» الحصار»، الصادرة في العام 1978، كانت المجموعة إضافة حقيقية للأدب العراقي، أصدر بعدها، روايته «الحافات» ثم مجوعته القصصية الأكثر إبهاراً، والتي قال عنها إبراهيم أصلان الكاتب المصري الشهير وصاحب»بحيرة المساء» ورواية»مالك الحزين»، عندما كان يزور العراق لحضور مهرجان المربد في نهاية الثمانينيات في لقاء أجراه معه القاص عبد الستار البيضاني، لمجلة ألف باء، واحدةٌ من أهم ما قرأ بل قال بما عُرف عنه من شفافية تليق بكاتب كبير: إنّهُ امتنع عن القراءة والكتابة لمدة خمسة عشرَ يوماً، قال: شعرتُ بالخجل أن يكون هنا كاتبٌ بهذا القدر من الإبداع ولا أحد عندنا يعرفهُ… بعدها قام الكاتب والصحفي عبد الستار البيضاني بإجراء لقاء مع جنداري، الذي طرح آراء جديدة في الكتابة والحياة ثم قام الصحفي، هاتف الثلج، بإجراء حوار طويل معه لمجلة»آفاق عربية»، طرح فيه جنداري مفهومه للكتابة الجديدة، الكتابة التي تقوم على خلخلة البِنى التاريخية ومعطيات الواقع من طريق إعادة كتابتها وترميم ما تعدّه الكتابةُ فجوةً لابدَّ من ردمها، التشكيك بما ينقلهُ لنا التاريخ، يقول جنداري: لا ضير في قراءة التاريخ بسوء نيةٍ، فليس هناك معطيات صافية، كانت الكتابة الجديدة، أو إذا استعرنا مفهوم الكاتب والناقد المصري، ادوار الخراّط، الحساسية الجديدة في الكتابة، صادمة لما كانت السردية العربية قد تواضعت عليه من اُطر وبنى ناجزة وتقليدية في طرق السرد، مثّلت الكتابة الجديدة في العراق التي خاض غمارها الكاتبان محمد خضير ومحمود جنداري، تحدّياً ليس فقط للذائقة التقليدية بل للجهد النقدي العراقي آنذاك، وقوبل، قصدتُ هذا الضرب من الكتابة الجديدة، بكثير من عدم الارتياح وسوء الفهم، إذن فقد كان جنداري، وقتها، اسماً أدبياً لامعاً ومهماً وكنا في السجن مشغوفين بالأدب والكتابة وناسهما، وان يكون هذا النجم الأدبي، في سجن الأحكام الخاصة، وفي المحجر وما أدراك ما المحجر، والذي تُسمّيه السُلطات غرفة الاستقبال، في حين هو غرفة مساحتها أربعة أمتار في خمسة، وفيها مرحاض، واطئ الجدار، لا يستر أحداً، يضعون فيها مايُقارب الأربعين إلى خمسين سجيناً، يتناوبون الوقوف والنوم، ذلك أنّ المكان لا يكفيهم، ولعلي أتذكر أن الزنزانة المُلاصقة لها، كان فيها سجين واحد، دكتور في الفيزياء النووية ويحمل الجنسية الكندية، اسمهٌ حسين الشهرستاني، يُعطيه مراسل المخابرات، وهو رجل زنجيٌ من سوق الشيوخ، اسمه علي عريان، إناء الطعام من تحت باب الزنزانة!!، بينما كنت أنا أرقب المشهد وأتسلى بتقشير جلد فخذيّ الذي يبّسهُ مرهم اللوركسسان، كنت وقتها أقضي عقوبة شهر في المحجر بسبب تقرير كتبه شاعر ثمانيني يقيم في أميركا الآن، هل أخذتني التفاصيلُ بعيداً؟ تنازعتني مشاعرُ شتى، بين الحزن لمصير كاتب أحبه وبين البهجة الآثمة الخفية إنني سأتعرّف عليه، ثم هذه الأنا المريضة المُتضخمة التي تقول بصوت مسموع: أنت أيضاً كاتب، على الرغم من إنني لم أكن قد كتبت غير عدد قليل من القصص، لم تُنشر أيٌّ منها، ولعلها مليئةٌ بالأخطاء والسذاجة، لكنهُ الغرور الذي تُغذّيه سنواتي الأربع وعشرون، ورحت أتخيَّل السيناريوهات التي سيمضي وفقها لقاؤنا الأول، تخيّلته معتداً كثيراً بنفسه، ربّما يُعاملني بتعالٍ وغطرسة، و قد لا تُتح لي فرصة اللقاء به كما أريد، في سجن فيه أكثرُ من ألفي سجين سياسي. في اليوم التالي، نزل ما أُطلق عليه ب»جماعة المؤامرة» أو جماعة جبور، كان محمود بينهم، سمعت هذا، وحين رأيت سجيناً من أهل الشرقاط يدخل زنزانتي لحاجة ما، سألتهُ: هل نزل محمود جنداري مع السجناء الجدد؟ قال: نعم، تعال لأعرّفك به، أصابتني رهبةٌ، لعلها من اثر خجل أبدي أعانيه، فؤجئت إنّه أخذني لزنزانة صديقي كفاح، والتي لاتبعدُ سوى زنزانتين أو خيمتين مثلما تواضعنا على تسمية زنازيننا آنذاك. الشيء الذي أدهشني، إننا حين وقفنا قُبالة الزنزانة، رأيناها تعجُ بالسجناء.. ليس ثمة موضع لقدم، ولدهشتي صاح الرجل الذي معي: محمود محمود، هكذا بهذه البساطة، من دون أستاذ أو أي لقب آخر، هبّ واقفاً مُبتسماً ابتسامته الحلوة، رافعاً يده بالتحية ومعتذراً بأنّهُ لا يستطيع أن يخترق هذا الحشد، ورأيت رجلاً أبيض في كل شيء، شعر رأسه بياضه ثلجيٌ تماماً، وجهه أبيض يعلو عينيه حاجبان أبيضان، رجل ربعةُ، ممتلئ فيما بعد، وعندما توطدت علاقتنا، كان يخبرني أن الكاتب المصري، إبراهيم أصلان، كان يقول له، كلما التقيا:» إيه يمحمود، أيه الشعر الأبيض ده، انت شايل هموم الأمة العربية كلها، ليه بس، طنش يمحمود، اعمل زيي وطنّش!». كان ذلك اللقاء الخاطف هو من علّمني الكثير عن الإنسان والكاتب، محمود جنداري، تواضع بمنزلة درس العمر، طيبةٌ وبساطةٌ تقولان لك: البحر أعمق مما تظن. يا دامي العينين والكفّين إنّ الليل زائل/ لاغُرفةُ التوقيف باقيةٌ ولا زرد السلاسل/ نيرون مات وروما لم تزل باقيةٌ بعينيها تقاتل/ وحبوب سُنبلةٍ تموت/ ستملأ الوادي سنابل «محمود درويش»…. لمْ أكن أؤمن بما يفعلهُ النظام، أنا أعرفهم، وفي الحرب خسرتُ شقيقي الأصغر، قُتل في حربنا مع إيران، هم معروفون، كانوا يعّدون أنفاس الناس، أتذكر مرّة، دعيت ومحمد خضير إلى جلسة خاصة في شقة، أمجد توفيق وهو قاص سبعيني وضابط مخابرات، وهو شقيق أرشد توفيق الذي كان سفيراً وقتها، كان ثمة شراب وكان أمجد يتكلّم بمواضيع حساسة جداً قصد توريطنا، لكننا، أنا ومحمد، كما لو كنّا قد اتفقنا مُسبقاً على الصمت، حاول بكل السبل، ولم يُفلح، وحين ذهبنا معاً إلى الحمام، نظرَ كُلٌ منّا إلى الآخر وضحكنا في الوقت نفسه.. وسمعناه يشتم.. لذلك حين جاءني المرحوم، حسن مطلك، كنت حينها جالساً في نادي الموظفين، وكان هو مدرّساً لمادة الأحياء في إحدى المدارس، اعتدنا على اللقاء اليومي، وبدأ بطرح فكرة أن عشيرة الجبور ستقدم على الإطاحة بالنظام، اندهشت وقلت بسخرية: وماهي عشيرة الجبور هذه، مؤسسة؟ منظمة؟ وزارة؟، قال لي حسن: لا، مجموعة من ضبّاط جبور ستغتال صداماً في احتفال السادس من كانون الثاني، وهو مناسبة عيد الجيش، انقلاباً ضد النظام، لم أتمالك نفسي ضربته وشتمتهُ وطردتهُ كان حسن مطلك من أحبّ الناس إلى قلبي، وكنت أبشرُ بموهبته القصصية الرائعة، أغضبني أنّه تورّط في مثل هذا الأمر ويُريد توريطي معه، بالطبع المصير المعروف: فشلت المؤامرة وقبضُ على المتورطين وكان المرحوم حسن بينهم واعدموا… في حين نحن المتسترين عليهم، فقد أخذنا أحكاماً بالمؤبد.. «قلت: أبو فوزي، من الذي حقق معك؟ سبعاوي إبراهيم، قال: احنه نعرف انته ما اشتركت ورفضت بس ليش ما خبرت، قلت له أستاذ هاي مو مهمتي مهمة الشرطة». فرد بكلمة نابية علي. قلت:» فكيف هي شهور التوقيف في حاكمية المخابرات؟ قال: وضعوني في غرفة واطئة السقف بضوء أحمر شديد التوهج، كانت الهواجس تأكلني، لم أكن أعرف المصير الذي سيؤول إليه حالي، خسرت من وزني الكثير، كنت أكثرُ بدانة قبل التوقيف..»
«كلُ الأغاني انتهت إلا أغاني الناس/ والصوت لو يُشترى ماتشتريه الناس/ عمداً نسيتُ الذي بيني وبين الناس/ الناس منهم أنا قلبي إليهم عاد» «سعدي يوسف»، لمحمود جنداري قلب طفل في السادسة، تستطيع أن ترى قلبه، في عينيه مشاعر مفضوحة، نقي في علاقاته، كبيرٌ في تساميه على صغائر الحياة المُقيّدة في السجن، حريص على أصدقائه وسلامتهم، عندما حدثت قضية، سلمان رشدي، وكتابه» آيات شيطانية»، وكانت الحدث الأهم في العام، 1990، وكنت محور الحدث حينها، حين أتاني بعض ممن ينتمون إلى التيار السلفي، وأتذكر أنّهم من الموصل، وكنت وقتها قد شرعتُ بكتابة روايتي»بيوت العناكب» وكان معظم السجناء يعرفون بأمر كتابتي وشغفي بكل ما يتعلق بعالم الأدب، وجاءني أحدهم وسألني عن رأيي في» فتوى الخميني» بقتل الكاتب سلمان رشدي، وأتذكر إنني قلت له، أن ليس من الضروري أن تكون شخصية معينة في الرواية تمثل الكاتب ومعتقده، فهناك شخصيات عدة وأنّ هناك شيئاً يُعرف بـ» بوليفينية الأصوات» وتعددها، ويجب أن لا يُحاكم الكاتب في ضوء ما ورد في روايته، وحدثت مشكلة كبيرة ومواجهة بين الشيوعيين والماركسيين والليبراليين وبين الأحزاب الدينية، وحين انتقلنا إلى سجن الخفيفة، كانت ردة فعل محمود مُفاجأة لي، فقد غضب، وقال لي: «ليش تدافع عن واحد راح يبوس قندرة السفير الإيراني، لو مأذيك ذوله المتدينين منو راح يفيدك! سلمان رشدي؟»، كان يقول ذلك بحب وحرص صديق. الكثير من الذكريات كانت مع محمود جنداري، الذي كان يُحب الانتساب إلى الشرقاط، في داخله قروي لم تلوّثهُ المدينة، يحكي عن علاقته المتميزة بفوزي كريم، الشاعر الستيني، والذي سمّى ابنه البكر فوزي تيمّناً باسمه، وكيف أن فوزي كريم كتب تحقيقاً عن أدباء الموصل في السبعينيات، لمجلة ألف باء، وكانت صورة جنداري في اللقاء، مكتوبٌ تحتها: محمود جنداري الجميلي الشرقاط، وكيف إنّه فرح بذلك.» قمرٌ على بعلبك ودمٌ على بيروت/ يا حلو من صبّك نهرين في تابوت/ قلي ومن كبّك فرساً من الياقوت/ يا ليت لي قلبك لأموت حين أموت «محمود درويش» في العام، 1994، كنت أعمل في مكتبة في الديوانية، حين أتاني الصديق الشاعر الراحل، كزار حنتوش، وقال:» يله تعال بسرعة، محمود جنداري هنا بالديوانية، ويريد يشوفك، كان وقتها مهرجان أدبي يقام في الديوانية، لعل اسمه» إبداعنا»!!»، ولم أتردد، فقد مضى وقتٌ طويل مذ أطلق سراحنا من السجن في كانون الأول 1991، حين رأيته بعد ثلاث سنين من الفراق شعرتُ بهزة في أعماقي، احتضنّ أحدنا الآخر بشوق، ابتسم وهمس لي: ها.. انتحر الحصان؟ كان يُشير إلى قصة»من مختصر تاريخ الخيل» التي نشرت في29 نسيان 1994، بعد يوم من مولد الطاغية، نشرها الشاعر الصديق سعد جاسم، كان جنداري يحب هذه القصة إلى حدًّ بعيد، ولذلك غيّرت عنوانها إلى» الحصان» احتراماً لذكراه. في هذه الأيام تمرّ ذكرى موتك، فهل تعلم ياصديقي ومعلمي، إنني، إلى الآن، لم أصدق أنك رحلت، كان يوم 14 تموز قاسياً، وكان تلفزيون الدولة يعرض وقتها أغنية حزينةً لمغنٍ اسمه راغب علامة، كانت حزينة جداً، كما لو أنّها تُعينني، حين استندت إلى حائط البيت، جلست وأحسستُ حرارة قميصي المُتعرق، وصوت هسيس جص الجدار يتساقط خلفي، ولم تعرف أمي.. لِمَ كان أبنها ينظر صامتاً إلى أغنية في التلفاز بينما دموعهُ تسيل……

*مادة خاصّة بمناسبة مرور ذكرى رحيل القاص محمود جنداري قبل أيّام.

مقالات ذات صلة

التعليقات مغلقة