تنوعات التأويل وجماليات المكشوف
القسم الرابع
ناجح المعموري
المقبرة جزء من تخيل الجماعات كما قال بندكت اندرسن. والمخيال منتج المرويات الخاصة بالمتوفى الذي لابد أن يعود الى ذاكرة الجماعة الأولى، كما حصل مع شهلا التي عادت مقبرة تحدرها وهناك قبور مطرودة من محيط الجماعة الى مكان غير مرتبط بذاكرة ما، مثلما حصل مع تهاني المقتولة، والمدفونة بمقبرة صالح ولأنها عاشت حكايتها بصدق تام، أطلقت الجماعة عليها صفة الملعونة. ويضئ لنا هذا الموقف بأن التمجيد والإذلال تطلقهما الجماعة على المتوفى .
انزاحت المقبرة وصارت رواية «ترمي بشرر» مقبرة حكايات وشفاهيات عن شخوص كثيرة وأشار عبده خال الى إن الأحداث جثث تضمنتها مقبرة السرد/ هكذا المقبرة الذي يهمنا فيها مواقع من دفنا من أقربائنا أو أصدقائنا، ولكل واحد منا قريب أو صديق، يعرف موقع مقبرته وأن لم يعرفها يضع لها مقبرة في مخيلته، لهذا فالمقبرة مهمة للجميع، يقف بين أحداثها ليرى أن الحياة تتجمع في مكان واحد. ربما لا يكون المكان المناسب لمن نحب، لكن المصب يجري في اتجاه واحد في الواقع الذي وجدنا فيه/ ص384
أقام الروائي عبده خال علاقة متدرجة مع شخوصه الكثيرة، ونسبة عالية من هذه الشخوص، تعيش على هامش الحياة في مدينة جدة وحي الحفرة وكل الشخوص/ الفتيات دخلن قصر السيد بالمصادفة وعبر السماسرة الموظفة من قبل الرجل الثري الممثل رمزاً للسلطة القادرة بما توفر لها من إمكانات مادية هائلة على تسخير ذلك كي يتحول قصره الى مؤسطر وظفه لخدمة مشاريع سرية لمؤسسة يشرف عليها الرجل الثري الذي لم يكن أفضل من الرجال الذين عرفوا طريقهم للقصر وكان الموقف الروائي ذكياً ومتطرفاً في إنتاج الحكاية واسطرتها، بحيث تحولت هذه الرواية الى صرخات كاشفة عن التناقضات في الحياة السعودية مع وجود الثروة الطائلة. وعلى الرغم من أن عبده خال تعامل مع روايته بوصفها مقبرة مفتوحة، دخل اليها العشرات من الشباب والفتيات، وكل من أدى دوراً في الحكايات المتنوعة. أستقر وسط هذه المقبرة وكل من دخل واحدة من المرويات كان مهشما والمثير للدهشة والاستغراب هو ابتعاد أبناء الأثرياء عن مشاركة في حياة القصر بشكل من الأشكال، ومن لم يدخل الى مقبرة السرد فأن الذاكرة دفنته فيها. ومن خسر حريته من الشباب والفتيات حاز على الموت بوصفه ثنائية مع الحرية الكانتية. وأجد بأن هذه الشخوص تجاوزت حريتها واختارت موتها المعنوي أو الفسلجي، وهنا تكمن التراجيديا البشرية التي استثمرت إمكانات الأسطرة واللامعقول في صياغتها، وظلت معطوبة ومطرودة من القصر حتى وأن كانت فيه، لأن الطرد مسألة وقت وحتماً سيكون والشخوص التي عاشت تفاصيل تلك المحنة كانت خارج الواقع وداخله، ومن هنا تشكلت أهمية «ترمي بشرر» وحازت رمزية شفافة، لكن السلطة امتلكت خطاباً مميزاً لها وظل هذا الخطاب فاعلاً في التأثير على الأفراد والعمل على إخضاعهم منذ لحظة دخولهم للقصر ويتم الإزاحة لهم تدريجياً. واستطاع القصر السري/ الرمزي الثقافي على إنتاج خطاب قادر على تمثيل حاجات الآخر واستدراجه. ولم يكن عبده خال منحازاً لواحد من شخوصه، بل دمرت كينونتها في مسعاها للوصول الى بريق القصر/ الفردوس الأرضي من أجل مغادرة جهنم الحفرة التي عاشت فيها عشرات العائلات على هامش الحياة. ولم يكن الفردوس حلماً مثلما توهم الكثير وإنما كان طريقهم نحو حافة الحياة المتقلصة حتى صارت حافة للموت، هذه الثنائية التي يعيشها الصحراوي كما قال الأستاذ سعيد الغانمي .
الشخوص التي دمرت كينونتها ارتضت بالموت الذي قلنا به، وهو رضا عن تلاشي الذات واضمحلال دور الكائن في الحياة. وهذه واحدة من أهم شفرات الرواية المرسلة لنا عبر مروياتها . واجهت هذه الشخوص لحظة التراجيديا المتمثلة بخسارتها لرصيدها المادي بعدما تلاشى رأسمالها الرمزي، هذه محنة الإنسان في علاقته مع السلطة التي لم يعرف من قبل آلية حركة خطابها السري.
شخوص غادرت حاضرها بعد زمن قصير من التعايش معه، والرجال أكثر إحساسا بخسران الحاضر وفقدت علاقتهما مع المستقبل الذي هو دائم الحضور- كما قال التوسير-لكنها- الشخوص خسرت حاضرها ومستقبلها وبقيت محكومة بالماضي المتحول الى المقبرة، مقبرة السرد –ترمي بشرر- ومقبرة الأموات، وتميزت هذه الشخوص بدفنها مرتين، الأولى، كان قبارها الروائي والثانية المقبرة التقليدية وهي مكان لكل البشر، لكن مقبرة السرد أقسى ما واجهت، وستظل ملاحقة باللعنة، في حين يفترض بالإنسان أن يظل بالذاكرة الحية والمستعادة من قبل الجماعة ويظل مروية مستمرة ضمن مخيالها. كل شيء محكوم بالموت والتغيب، حتى حي الحفرة محكوم بذلك وكان بانتظار لحظته التي استمرت حتى الإعلان عن ذلك/ وتستقبل أمانة جدة حالياً أصحاب العقارات المستهدفة بالمشروع الجديد في منطقة الحفرة لإنهاء إجراءات نزع الملكية خلال مهلة حددتها الأمانة تصل الى شهرين/ ص394. وتكرر الإعلان ذلك في المتن الحكائي وحتى يتحول الى يقين نشرته جريدة الحصاد بعددها 1967/ والجريدة وعددها والصحف الأخرى هي دواعم سردية/ اثباتية لكنها تشتمل على طاقة إلهامية ومع ذلك فإنها من الملاحق التي وظفتها الرواية. كان العنوان محكوماً بخبرة صحفية بالأعداد والعنوان المركزي: مشروع تطويري يبدأ بإزالة منطقة الحفرة والعنوان الثانوي: تعويضات على المباني والأراضي لمن لا يملكون صكوكاً تثبت ملكيتهم: مبارك المؤيد –جدة .
المقصود من هذا كله إزالة هذه الحفرة تنفيذاً لقرار القصر السري ربما لارتباط ثلاثة من شباب الحي مع القصر وهم أسامة /طارق وعيسى. إنها مرحلة أخيرة بمعاقبة الحي كله ولابد من ترحيله الى المقبرة والتخلص منه. ومفردة «إزالة» تنطوي على رسالة واضحة عن حي الحفرة ويكشف هذا الخبر الصحفي عن أن ما تضمنه المتن الحكائي لم يكن شائعة وإنما هو حقيقة وتم من خلال ذلك جس نبض سكان حي الحفرة. ويؤكد هذا الخبر على أن القصر يخطط وينفذ المشاريع المدعومة من قبل السلطة العلب المكونة من شبكة واحدة متجاورة مع بعضها وخاضعة لعرق واحد ويهيمن عليها تحدر سلالي واحد. وكل ما موجود خارج القصر من دوائر ومؤسسات خاضع لسياسة القصر. وتضمنت عدداً من النماذج الدالة على ذلك وأبرزها ما حصل في بورصات الأسهم والانهيار السريع الحاصل في ادخارات عيسى وأسامة وإدخال وليد الى مستشفى الأمراض النفسية.
وللقصر برنامج سري آخر مرتبط بترويج المخدرات والتشجيع على تعاطيها ضمن العلاقات السائدة داخل القصر ويتسرب من بعد ذلك الى المحيط الخارجي بالإضافة الى المشروبات الروحية التي أفرط الجميع بتعاطيها داخل القصر وخارجه. وما يريده القصر هو حالة الإدمان ،حتى يحقق هدفه بعد طرد الشخص المعني والذي لن يجد ما هو محتاج له مثلما كان يومياً.
والإفراط بتعاطي الحشيش والمشروبات وسيلة خلاص فردية من الحالة التي كان يعيشها كل شخص من الموجودين وسط القصر /كنت أبحث عن ماسحة لهذه الذاكرة، فتجرعت كميات كبيرة من المشروبات الكحولية المختلفة، بحثاً عن غيبوبة تدخلني لغيبوبة النسيان، ولكي أسرع بالاختباء بذلك الكهف الآمن. قرنت الشراب بالتحشيش ، لتطفو كل الوجوه في مخيلتي/ص348.
عاود المقدس ظهوره وسط خسارات الشخوص الكبيرة وانهياراته وانعكاس ذلك على الشخص مباشرة، كان المقدس حاضراً، لأنه يستعيد تأثيره الروحي في لحظات تشويش الوعي وضياع القدرة على قراءة ما يحصل خصوصاً إذا كان الشخص طرفاً في الذي جرى. وحضور طارق مع أخيه إبراهيم وأولاده الى المسجد أكثر التبديات على العلاقة مع المقدس في محاولة من طارق للاستعانة به وتنظيف الداخل أو إزالة ما تراكم من صور ووقائع في ذاكرته خلال ما يقارب ثلاثاً وثلاثين سنة، هي كل الفترة التي قضاها طارق في قصر السيد /إبراهيم يجذبني لداخل المسجد بعمق خطواته ليصل الى المحراب ويوقفني في الصف الأول خلفه تماماً، وأنا أرغب في الهرب ، ولا أقدر على جمع أشلائي المتساقطة، … أتلفت بحثاً عن منقذ لأنجو بانهياراتي /ص378.
أنحاز للمقدس وارتضى الدخول للمسجد مع إبراهيم وأولاده وابن مرام /أغيد ووجد نفسه راضية، قابلة بالجو الروحي والقبول بالاندماج مع الجماعة لأداء الصلاة. لكنه أحس بتمرد على ما هو غير مألوف سابقاً وهو يعرف جيداً بأن الذي مارسه خلال تاريخ طويل لا يمكنه نسيانه ولا يقوى عليه كل المقدس ، المدنس متمركز وطاغ وأخطاء مهيمنة، صادمة له ولا تقوى عليها كل قداسات العالم /كان آخر السقوط، استقرت الأنقاض في مواقعها، فلمحت الغبار الكثيف ينبعث من داخلي ، ويملأ فضاءات المسجد، فأغيب خلف أدمعي ، أجهشت بالبكاء، وصوت إبراهيم يلاحق مردة عبثوا في داخلي … لم يعد الدعم يلحم تصدعاتها ، فارتفاع عويلي، غطى على سكينة المصلين/ ص378.
لم يستطع الركوع لله بعد أن قضى عمره راكعاً أمام السيد. وشعر بأنه متمرد على صوت إبراهيم وهو يدعو للسجود /خرت كل الرقاب، ورقبتي المتطاولة في فضا المسجد، يلوب عن حجر اندس به/ص379.
ارتضى أن يتحول الى مسخ وحيوان، وبحث عن حجر يلوذ فيه كالحيوان، لكنه لم يكن في فضاء الجحور . أنه وسط المسجد ويبحث عن خلاص له. وهذا قدمه استهلال الرواية من خلال «عتبة أولى» من ص7 ولغاية ص13 اختزل الاستهلال كثيراً من الحكايات، لكنه حافظ على المركز فيها، صوت الراوي ولم يذكر اسمه ، إنه طارق فاضل الداخل للحكايات والحامل لها وحاز على العتبة الأولى وهو الذي حكى كل الذي صاغ متن الرواية عندما التقى عبده خال. ولماذا ظل اسم الراوي سرياً ولم يصرح به الروائي؟ أعتقد أراده أن يظل مشاركاً للشخوص الكثيرة ولا يتميز عنها إلا من خلال تطورات ألحكي ونموه سببياً.