قدم سيبويه، النحوي الشهير، خدمات جليلة للعرب في كل العصور. وجعل من العربية لغة حية متجددة في كل مكان. ولولا هذه الخدمات لما كان بوسع أحد أن يدعي نجاته من اللحن، وسلامة لسانه من الانحراف.
ومع كل هذا الجميل الذي أسداه الرجل، وطوق به أعناق العرب من المحيط إلى الخليج، فإن كثيرين من شعرائهم القدامى، وقعوا في أخطاء غير ظاهرة، بررها لهم أصدقاؤهم النحاة، الحاضرون في كل مصيبة، وأحياناً خصومهم أيضاً، بشكل بدت فيه وكأنها اجتهادات لم يحالفها الحظ ليس إلا!
ومع ذلك فإن الشعر بقي إلى زمن بني العباس الحجة في علوم اللغة، والمعول في مشكلات النحو. وكان آخر هؤلاء الشعراء ذا الرمة، الأموي المتأخر. أما ما بعده فقد عدوا شعراء مولدين لا يملكون هذا الحق، وليس لديهم هذا الامتياز.
وقد هالني قبل أيام أن أستمع لشاعرة موهوبة، ارتقت المنصة أمام عدد غفير من علية القوم في بغداد، وأنشدت بشجاعة منقطعة النظير، قصيدة بالمناسبة. ولكنها كانت حافلة بالأخطاء، مليئة بالتجاوزات اللفظية والنحوية. ولأنني اعتدت أن أزن المتحدث بطريقته في النطق، ودقته في اختيار اللفظ، وقدرته على ابتكار المعنى، وليس بوجهه الصبوح، أو ابتسامته المشرقة، أو شعره (بفتح الشين) الفاحم. فقد أعرضت عن السماع، وتشاغلت بقضم ما وقعت عليه يدي من (أجباس)، وشرب ما تهيأ لي من شاي، برغم كل ما فيهما من أملاح وسكريات وكولسترول!
ولو قدر لي أن أنصح صديقتي الشاعرة هذه لأشرت عليها بكتاب سيبويه، أو في الأقل، كتب النحو في المدارس الثانوية. وقد سمعت من صديقي العزيز الراحل نعمة العزاوي أن مناهج النحو لغاية الصف الرابع لدينا كافية لإتقان اللغة، وتجنب الهفوات. وكان هو أحد أعضاء اللجنة التي كلفت بوضع المناهج في حينه.
وبصراحة فإن ابن آدم خطاء، وخير الخطائين التوابون! والتوبة عن الخطأ تتحقق بالعودة إلى التراث والاغتراف منه، وقراءة الشعر وروايته، وانتقاء المأثور والعناية به.
قال طه حسين ذات مرة وهو يلقي درسه على طلبة قسم اللغة العربية، أن مدرسي العربية مقصرون لأنهم لا يحفظون شعر العرب. فرد عليه زكي مبارك وكان تلميذاً مشاكساً: هذا القول لا ينطبق علي لأنني أحفظ ثلاثين ألف بيت وأستطيع روايتها متى ما طلب مني ذلك!
وأنا لا أشك أن زكي مبارك قد جانب الحقيقة، وبالغ في الإعجاب بالذات. لكنه أدرك حاجة طلبة اللغة إلى إنشاد الشعر، و فهم أغراضه وتدبر معانيه. فمن يزهد في تراث الآباء لن يرتجى منه نفع للأبناء. ولن يكون شاعراً أو ناثراً أو مؤرخاً أو مفكراً أو إعلامياً في يوم من الأيام. فهذه هي سنة اللغة في كل زمان ومكان. وليست العربية بدعاً في ذلك. فمن من الإنجليز لم يقرأ شكسبير، ومن من الروس لم يقرأ بوشكن، ومن من الألمان لم يقرأ غوته؟ حتى نعرض نحن عن طرفة وامرئ القيس والأخطل وجرير؟
جميل سيبويه
التعليقات مغلقة